
في تزامُنٍ لافتٍ مع وفاة «جعفر مُحمَّد النُّميري»، الرئيس الأسبق للسُّودان، الذي ملأ الدُّنيا وشغل الناس إبَّان زعامته التي أشبهت زعامات الفتوَّات في الحارة المصرية، كما جسَّدها «نجيب محفوظ» في رواياته الشهيرة، مُطعَّمةً بقدرٍ محسوبٍ من الاتِّجاهات القومية الصوتية والخيارات الإسلامية الشعبوية الفاشلة، والسماح للفلاشا من اليهود الأثيوبيين باتِّخاذ السُّودان قاعدة مُرورٍ إلى إسرائيل لإرضاء قوى دوليةٍ داعمةٍ أو اتِّقاء غضبها أو استدرار عطفها وما تمنّ به من الفُتات، وهي سياساتٌ مهما بدت لامحةً وذكيَّةً ومقدامةً في لحظات اجتراحها وتدشينها، إلاَّ أنَّها سُرعان ما تبور وتنطفئ مصابيحها كما تنطفئ مصابيح «المَخَادِر» عقب ليلةٍ من الطرب والمُوسيقى والرقصات حين ينفضّ السامر ويصمت زامر الحيّ وتكفّ الطُّبول عن الضجيج، فيُصبح الناس ويصبح المُلك للَّه، أقولُ : في تزامُنٍ لافتٍ أُقيمت في بغداد أكبر وأضخم مراسم تشييعٍ تشهدها العاصمة العراقية مُنذُ عُقودٍ طويلة، حيثُ وُوري الثرى في ملعب الشعب وسط العاصمة، جُثمان شيخ المُدرِّبين وأُسطورة الكُرة العراقية «عمُّو بابا»، الذي أجمع العراقيون على زعامته الكروية ولمسوا مواهبه العظيمة ورأوها رأي العين دُون أن تُفرض عليهم في منهجٍ مدرسيٍّ أو بروباجندا إعلاميةٍ أو تماثيل ونُصُبٍ تملأ الفضاء وتمنع الأُوكسجين من الوصول إلى الناس.
«عمُّو بابا» كان من شِيَمِه التواضع الجميل والعمل المُتقن والدأب والمُثابرة وكفَّ أيدي المُتطفِّلين ممَّن لا يشهدون الوغى ويُريدون كُلّ المغانم دُون أن يُعنَّفوا، كما كان «عنترة» يفخر ويتباهى أمام «عبلة»، فإذا حاقت الهزيمة تبرَّأوا من كِبَرِهَا، وإذا لاح النصر ادَّعوه لأنفسهم.
كان «عمُّو بابا» قيمةً مرجعيةً في مسيرة الكُرة العراقية التي لم تهنأ يوماً بالاستقرار بسبب إفرازات السياسة الكريهة للديكتاتورية الباحثة عن انتصاراتٍ على طبقٍ من ذهب ولكنَّها لم تكُن تحصد سوى الهزائم المُرَّة، ذلك أنَّ ما يُمكن استلابه عنوةً في الداخل المُكبَّل لا يُمكن أخذه غلابا من المُحيط الإقليمي والدولي، حيثُ لكُلّ كعبةٍ ربٌّ يحميها، وعند الامتحان يُكرم المرء أو يُهان.
وهكذا هُو الحال في كُرة الْقَدَم، التي تعكس المزاج العام، فإذا كان اللاَّعبون أسارى عقلٍ مريضٍ يضربهم بالسياط ويُلقي بهم في الزنازين ويُسمعهم التهديد والوعيد قبل كُلِّ مُباراةٍ هامَّة، فكيف لهم أن يجلُّوا في الميادين، ذلك أنَّ مَنْ أهان حصانه كبا به ساعة النصرة وفاقد الشيء لا يُعطيه، كما يُقال.
في مثل هذه القتامة وانسداد الأُفق الإبداعي والمعنويات الهابطة وما تلا ذلك من غزوٍ شنيعٍ وقتلٍ وإحراقٍ وتدميرٍ طال حتَّى الخيول في مرابطها والأُسود في عرارينها وأحال الرافدين إلى مناحة، رُبَّما كان أفضل تعبيرٍ عنها ما قاله شاعرنا الكبير «عبداللَّه عبدالوهَّاب نُعمان» – «الفضول» – حين وصف وادي الضباب في مُحافظة «تعز» :
«وادي الضباب ماءك غزيرٌ سكَّاب
نُصّك سيول والنصّ دمع الأحباب»
أقولُ : في مثل هذه الظُّروف غير المسبوقة تتبدَّى إنجازات «عمُّو بابا» أشبه بالمُعجزات، كَمَنْ يحفر بئراً ارتوازيةً بإبرة، فقد قاد المُنتخب العراقي في تصفيات مُونديال 1990 وتصفيات مُونديال 1994 وتصفيات أُمم آسيا عام 1996 ، كما قاد المُنتخب إلى لقب بُطولة كأس الخليج ثلاث مرَّاتٍ من أصل أربع مُشاركات، وأحرز معه ذهبية مُسابقة كُرة الْقَدَم في دورة الألعاب الآسيوية في الهند عام 1982 ، وحصل – أيضاً – على لقب بُطولة العالم العسكرية في الكُويت عام 1979، وقاد «عمُّو بابا» – واسمه الحقيقي «عمانوئيل داود» – مُنتخب بلاده الأُولمبي في نهائيات مُسابقة كُرة الْقَدَم في ثلاث دوراتٍ على التوالي : «في مُوسكو عام 1980»، و«لُوس أنجلوس عام 1984»، و«سيئول عام 1988»، إضافةً إلى تدريبه المُنتخب المُشارك في بُطولة كأس العرب في الأُردن عام 1988.
إنجازاتٌ حقيقيةٌ لِرَجُلٍ حقيقيٍّ لم يَبْنِ صرحه من الكرتون أو الادِّعاء، فتلك آثاره تشهد له، وهي غير قابلةٍ للتزييف، لأنَّها من الذهب وليست من الصفيح، ويصدُق عليها قول «أبي الطيِّب» :
«إنَّ السلاح جميع الناس تحملهُ
وليس كُلّ ذوات المخلب السبعُ»
وقوله – أيضاً – :
«وما الحُسن في وجه الفتى شرفٌ له
إذا لم يكُن في فعله والخلائقِ»
رحم اللَّه «عمُّو بابا».