أخيراً، بعد التي وللُّتيا، وغمس الرؤوس في عسل الأحلام، أذعنت (جنرال موتورز) أشهر وأعرق صانعي السيارات في العالم، لما ليس منه بد فأشهرت إفلاسها، طالبة من القضاء حمايتها من الدائنين بموجب قانون الإفلاس الأمريكي، وهو قانون بالمناسبة واسع الذمة، يتيح الإفلات للذئاب بما في بطونها وما في أشداقها ومخالبها، ولا عزاء لقطعان المعيز التي يرعاها رعاة مشغولون بأنفسهم وأغلبهم من نوع “حاميها حراميها”:
ومن رعى غنماً في أرضي مسبعة=وغاب عنها تولى رعيها الأسد
قصة نجاح وصعود جنرال موتورز تجسيد للحلم الأمريكي الذي أذهل العالم القديم بحيويته وجعله يلهث وراء (العم سام) حيث كعبة رؤوس الأموال في (وول ستريت) تحول التراب إلى ذهب، وتحوّل (الخردة) والمخلفات إلى صناعات فائقة الجودة، وحيث المبادرة الفردية الجسورة والخلاقة والمتحللة من القيم عدا قيمة الربح، هي السائدة، وقد استغرقت جنرال موتروز القرن العشرين بأكمله لبناء أسطورتها: “تأسست في 1908 ومع إطلالقة القرن الـ 21 بدأت مفاصلها تتخلخل، وقبضتها تسترخي، وأخذ المنافسون اليابانيون ومن بعدهم الكوريون والصينيون إضافة إلى الأوروبيين يوجهون إليها اللكمة تلو الأخرى، وينافسونها في عقر دارها بالسوق الأمريكية، مما اضطرها إلى تصنيع السيارات في 34 دولة حول العالم، لتكون في قلب الأسواق، وتستفيد من انخفاض أجور العمال الفقراء من الأمريكيين الذي تضمن لهم القوانين الأمريكية امتيازات ورواتب تقاعدية باهظة التكاليف، علماً أن هناك قاعدة رأسمالية تشير إلى أن كثيرة المصاريف تقضي على المشاريع الناجحة، وتحوّلها من دائنة إلى مدينة. لدينا في اليمن مثل يقول “من كثر رجامته أسقطوه”، وقد كثر الذين حصبوا جنرال موتورز بالحجارة حتى أدموها، ومن الرجامين الذين يعملون بمواجع الجراح اتحاد عمال السيارات الأمريكي الذي نجح في التفاوض على روابت مرتفعة لكي يصبح العمال من مالكي المنازل في المدن والاستراحات في الأرياف، واقتناء السيارات بأسعار مخفضة، وتنظيم العطلات حول العالم، وكان على جنرال موتورز تكاليف الضمان لاصحي أيضاً، ورواتب التقاعد المجزية، وتوفير العمل مدى الحياة وتوريثه للأبناء والأحفاد، وحين نقلت الشركة بعض مصانعها إلى المكسيك وآسيا اعتباراً من الثمانينيات حيث تتبع جذور الأزمة افتقرت مدن أمريكية بكاملها مثل مدينة (فلينت) بالقرب من ديترويت، فخلت المنازل والمتاجر من أصحابها، لأن الشيء إذا زاد عن حدّه انقلب ضده، حتى الوضوء وهو رمز الطهارة لا يقبل المبالغة، وإلا وعندنا مثل يمني ينطبق على علاقة أصحاب العملوالعمال، حيث ينبغي أن لا يجور أحدهما على الآخر، وأن يعلما أنهما في مركب واحد، إذا غرق سحب معه الجميع إلى القاع، المثل يقول “ما تفعله الشاة بالقرضة تحصله في جلدها”، والقرضة كما تعلمون نبات شوكي شديد الوطئ على من يحتك به، والشاة تدخل في تلافيق القرضة وامتداداتها وأشواكها غير مبالية، فالمهم أن تملأ بطنها، وعند الأكور تضيع العقول، وحين تعود إلى الزريبة متخمة تكتشف بعد فوات الأوان أن جلدها مليء بالأشواك وأوجاعها حسوك، ومع ذلك لا تتعظ الشاة، فترعوي ولا تكف القرضة عن إنتاج الشوك فتحتوي، وكم من بشر متقابلين في هذه الدنيا بعضهم من فصيلة الشياه والآخر من ذوات الأشواك من القرض والحرب بينهما أقوممن ساق على قدم، وربما كانت أعداد الموظفين في (جي إم) أحد المقاييس الهامة لرحلة الهبوط المريعة، فقد كان عدد المسجلين في النقابات 440 ألف عامل في العام 1981م، تراجع غلى 62 ألف عام 2008م، وتتضمن آخر خطة إعادة هيكلة ليصل عدد العمال إلى 38 ألفاً فقط لا غير، وعليك أيها القارئ العزيز قياس الضرر ذلك أن الأرقام صماء لا تكذب، وإنما يلبسها المحللون المغرضون ثوب الكذب إذا شاءوا، أو رأوا في ذلك مصلحة من نوع ما ولو كانت مكايدة كما تفعل المعارضات والأحزاب الحاكمة العربية التي ترى الأسود فتقول إنه أبيض، وترى الأبيض فتقول أنه أسود، وفقاً لموقعها من المعادلة غير عابئة بأبي الطيب القائل:
وليس يقرّ في الأذهان شيءٌ=إذا احتاج النهار إلى دليل