تعزيز الشفافية و الحوار

لم يعد التواصل بين المسؤولين المكلفين بالعمل العام والأمانة التي عرضها الله تعالى على الجبال فأبين أن يحملنها، وبين المواطنين المكلفين بالسمع والطاعة وأداء الواجبات والضرائب والتضحية بالنفس والنفيس فداء للوطن لم يعد مثل ذلك التواصل عسيراً أو مستحيلاً أومضيعة للوقت والجهد، عقب التطر الهائل في ثورة الإتصالات، وقدرتها على تحطيم الأبواب والحواجز والحُجّاب والبطانات وعظام الرقبة الذين يحولون بين الراعي والرعية، ويصوّرون الأمور إما وردية “الجو بديع والدنيا ربيع”، وإما مأساوية “أنت ومن بعدك الطوفان”، فالعدو أمامنا والبحر وراءنا، وكلا الموقفين ليسا من السياسة في شيء، فهي فن تحقيق الممكن، ونؤكد (الممكن)، فالأحلام والأوهام والمكايدات والمزايدات هي نوع من الطفح السياسي الجلدي للذات المتورمة، وما من نظام على وجه البسيطة يستطيع إرضاء جميع الناس والإستجابة لجميع التمنيات وحل مختلف المشاكل، فحتى الأنبياء الذين كانوا مدعومين بكتب وحق وتوفيقه ورعايته ومقاصد السماء تجاه أهل الأرض، لم يستطيعوا غلغاء الطبيعة البشرية وهي جبلة إلهية في انقسامها بين الخير والشر، وبين الإيمان والكفر، وبين الإيثار والأثرة، وبين عبادة الله تعالى وعبادة الذات، وبين التقوى والنفاق، وبين البناء والهدم، وكل من حاول ذلك المستحيل اصطدم بصخرة صماء:

كناطح خصرة يوماً ليوهنها=فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

غايته…

اللقاء في الوسط يمثل أهون الضررين، وهذا الوسط هو المولود الشرعي للعقل وإدراك المصلحة، وصيانة الوطن والمكتسبات، بل والبناء عليها بالتوافق، ولا بد لتجليات العقل من مساحة مأمونة للحوار والتفكير بصوت عال، ولا بد للمقاربة من اكتشاف المشترك وتجنيبه الغرق في المختلف عليه، فمن المشترك وفيه تتعزز الثقة، وهو المجال المثالي للتعبير عن النوايا الحسنة، وكل ذلك لا يستقيم بإيلاء ذوي النزعات المتطرفة على جانبي المعادلة زمام الحوار، فمن أراد الخير فعليه بأهل الخير، ومتعطش للشر فأباليسه معروفة موصوفة، سيماهم على وجوههم، ولكي تبدأ القافلة حركتها لا بد لها من هدف تتجه إليه حتى تنجلي الطرق، وتمتحن المسالك، ويتم تقدير “الميرة” اللازمة للزمن المتعارف عليه، وإلا تاهت القافلة بين الرمال، تدور حول نفسها حتى تأتي على ميرتها من طعام وشراب وثقة بالأدلاء، عندئذ ستتكسر النصال على النصال حين يرفع التائهون شعار “يا روحي ما بعدك روح”.

تحضرني في هذا الشأن سنّة حسنة استنها محمد بن راشد آل مكتوم، الذي وظف الثورة المعرفية للتواصل والحوار مع العموم من مختلف الأطياف، فأستحدث موقعاً إلكترونياً خاصاً به يستقبل عبره الأسئلة المشمولة بهموم الناس وتظلماتهم وتطلعاتهم لخدمة الدولة، وكذلك رؤاهم واقتراحاتهم التي لا يقدر بعضها بثمن، لأن من رأى ليس كمن سمع، ومن لسعته النار ليس كمن أدفأته، “والنار ما حرق إلا رجل واطيها”، وقد نشرت الصحف الإماراتية تفاصيل أول لقاء بين هذا المسؤول الرفيع وبين سائليه، زيادة في تعميم الفائدة وتعميق التجربة في التواصل العقلاني، وتصحيح المعلومات، وإيضاح الحقائق، وقد ذكر الشيخ محمد أنه أجاب في لقائه الإلكتروني الأول عن مجموعة من الرسائل التي فيها فائدة عامة، وبالنسبة لبقية الرسائل وجه أن لا تهمل أي رسالة، وأن تعرض عليه كافة الرسائل لتتم متابعتها من قبل الجهات المعنية بكل اهتمام ومسؤولية، مشيراً إلى أن الحكومة الإتحادية تعتبر المواطنين محور عملها لأنها كلفت من أجل خدمة الناس وليس العكس.

إن تعزيز الشفافية في أداء الجهاز الحكومي لم يعد مجرّد ترف للتباهي والإستعراض، وإنما أصبح من الضرورات التي ينبغي المبادرة للأخذ بها، والثورة المعرفية الإلكترونية تتنامى بمتواليات هندسية تحول معها الرأي العام ونشطاؤه إلى الرقم الصعب في مسرية التنمية والتحديث، وتوازنات العمل السياسي والحزبي والإعلامي، وما أحوجنا في اليمن إلى مثل هذا النهج حتى ننسلخ من ربقة العصمة الحكومية، فيرتفع مستوى الأداء باتجاه سقف العصر الذي نعيشه ونعايش معطياته، ولا عذر لمن يرى الطريق أمامه لا حباً ممتنعاً فيختار تسلق الصخور الملساء الشديدة الإنحدار.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s