
يواجه أكبر نصّاب في التاريخ – “هَبَرَ” من ضحاياه أكثر من 50 مليار دولار – حكماً بالسجن قد يصل إلى 150 عاماً، علماً أنه يبلغ من العمر حالياً 71 عاماً، ولا تعليق سوى ما قاله جرير مُطَمْئِناً مربْع تجاه تهديدات الفرزق المُعلنة:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً=أبشر بطول سلامة يا مربْع
فالأميركي برنارد مادوف “بايعها ومش فارقة عنده” سواءً كان الحكم 12 عاماً – كما يطلب محاميه بحجّة كبر سنه – أو كان 150 عاماً كما يطلب الإدعاء نظراً لخطورة جرائمه، ولا عزاء للمغفّلين الذين طمعوا في العوائد المُجزية التي كان يَعِدهم بها هذا السمسار في بورصة نيويورك، فخسروا رأس المال والضّمار، وهم اليوم يبحثون عن الفُتات، كأنهم سرب نسور يتقاتل على جثة عصفور، حيث لا تزيد قيمة الممتلكات المتوقّع بيعها لصالح الدائنين على 80 مليون دولار، لا تدري كم “سَيَشْفُط” منها المحامون والمحاسبون الذين لهم الأولوية المطلقة على من عداهم في تحصيل أجور أتعابهم.
والسؤال المحيّر هو: أين ذهبت تلك المليارات “القارونية”، لأنه لو افترضنا أن رادوف وعائلته كانوا يتغذون بأوراق البنكنوت، شأن المجاذيب اللذين يأكلون المسامير والزجاج، فما كان بإمكانهم الإتيان على مليار واحد فيما مضى من عمرهم وما تبقى. ويبدو أن الرجل – الواسع الحيلة – قد وجد طريقة لإخفاء الأموال، لتنعم عائلته برفاهية الحياة، وتترحّم عليه وعلى مواهبه التي لا تتكرر، ولسان حاله يقول: “وهل يضير سلخ جلد الشاة بعد ذبحها”.
مادوف نموذج يسير على قدمين لـ “خضراء الدّمن” المنوّه عن حسن منظرها وسوء مخبرها، وحين تتأمل وجهه في الصورة المنشورة تقول “ما شاء الله” وسامة وقسامة وجلال ووقار، لكأنه كان المقوصد بأغنية ناظم الغزالي الشهيرة:
عيّرتني بالشيب وهو وقار=ليتها عيّرت بما هو عارُ
إن تكن شابت الذوائب مني=فالليالي تزينها الأقمار
يعني… الرجل ليس من أولئك الذين يُعرفون بسيماهم، فيؤخذون بالنواصي والأقدام، ولا شك أن الكثيرين من الضحايا – الذين تعاملوا مع مادوف مباشرة – قد أُخذو بتلك “الكاريزما” التي تُعدّ واحدة من أهم أركان النّصب، ذلك أن البُلهان لا يَثِقُ بهم أحد، وعليه فإن من يدّعون الفراسة في قراءة الوجوه ومعرفة ما في النفوس أن يتواضعوا قليلاً، وأن يتّخذوا احتياطات إضافية، فما “كل أخضر بصل”، لأنه إذا وقع الفأس في الرأس “ضاعت الطاسة والكاس”، وما دامت النار لا تحرق سوى رجل واطيها، فإن الذين يبكون مدخراتهم الضائعة ينبغي أن يدركوا أين أخطأ وكيف وقعوا ومن أي المداخل تسرب النمل إلى ثقوبهم، فما ضاع من مالك ما علّمك، وما من أحدٍ منا إلا وله تجربة كبُرت أم صغُرت، واحذروا من النصابين الصغار، لكي تتجنبوا الكبار بعون واحدٍ أحد، فمعظم النار من مستصغر الشرر.
ومن المؤكد أن مادوف قد بدأ بالنصب الصغير، ثم تدرّج بعد أن اكتشف مدى غفلة الناس عن أموالهم، وأن الكثيرين منهم يتكسّبون بالحرام، فهم على شاكلته، يعني “شعره من ظهر خنزير”، وإن تمكنوا من تبييض تلك الأموال وغسلها بالماء والتراب سبع مرات، ولمّا كانت تلك الأموال سائبة، فقد تعلّم منها الحرام على أصوله وزاده فصولاً، ليحجز مكانه في موسوعة جينيس للأرقام القياسية.
هل الرجل بلا فضائل بالمرّة؟ لقد أظهر حتى اللحظة فضيلة باهرة، تمثّلت أولاً بالإعتراف التفصيلي بلا مواربة، ثم إنه لم يورّط أحداً وبرّأ ابنيه وأخيه و “المدام”، فيكفي آل مادوف واحداً يكون نزيل السجن، وسيأتيه رزقه رغداً في أي زنزانة كان، ذلك أن الأصفر الرنان “يجيب الجنّ مربطين”، ولو كانوا في بروج مشيّدة، كما أن الهلع لم يظهر على وجهه، وهذه أخرى، والثالثة “عادها لما تكون” على رأي المغني.