التاميل والسنهاليون

حرب التاميل والسنهاليين وضعت أوزارها بعد ربع قرن من الفظاعات وسفك الدماء وزراعة الكراهية واتخاذ المدنيين أهدافاً للرماية ورهائن للتمترس، مما حول سيرلانكا – الجزيرة التي هام بها العرب عشقاً منذ القدم وكان اسمها (سرنديب) كما ورد في شعر الإمام الشافعي – إلى أرض للموت، تماماً مثل وادي الجنة (سوات) في شمال غرب باكستان، وكشمير التي لم يخلق مثلها في البلاد على سفوح الهملايا، وبغداد المحاطة بثلاثة أنهر وملايين النخيل التي احترقت بجثث البشر وبـ {النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود}، والبوسنة والهرسك التي نزفت من الدماء ما نافس أمطار السماء في تلك الأرض التي لم تعرف السلام سوى أضغاث أحلام، نعم انتهت الحرب في سيرلانكا بغالب ومغلوب، وياليتها لم تنته على هذه الشاكلة التي تؤسس لحروب جديدة، فليس وى التراضي والعدالة يؤسس لسلام دائم يكون حجة على السفهاء والعقلاء وعلى المتطرفين والمعتدلين، بحيث تحفظ كرامات الناس وكبرياؤهم، وتحترم تضحياتهم، فالسلام الذي يأتي بالإكراه ليس سلاماً حتى وإن كان بين المرء ونفسه، ولكننا في عصر فيه الشذوذ ما تنوء بحمله الجبال، فما من أحد يعترف بحقوق أحدٍ آخر، إلا أن يكون مضطراً أو دافعاً لثمن يفوق ما يصرف على الاستئثار، وهذه من الموبقات التي تحقـّر العقل الإنساني السوي الذي أصبح في مخالب التطرّف لا يتعظ بغيره، ويصرّ على إعادة المجرّب الذي أعيا من سبقوه وخبروه، فهو كالفأر يقع في المصيدة التي وقع فيها أسلافه من مئات السنين قطعة جبن معلّبة، ولعاب يسيل، ثم هرولة إلى الموت تحت أسنة المحاريب المنصوبة كالقضاء والقدر. ومن نافل القول أن العقلاء الذين يعون وينظرون إلى الأفق البعيد يخافون أن يعلنوا – كزرقاء اليمامة – ما ترى أعينهم، فيتركون الميدان لأصحاب الهوى، ممن يبغونها عوجا، حتى إذا وقعت الواقعة قالوا لقد كنا نستشعر هذه المآلات السوداء ولكن كنا خائفين، ومثلهم في ذلك كمثل الذي يعيش في فقر مدقع وهو ميسور خوفاً من فقر متوقع، فما أغناه غناه، ولا غفر ذنوبه فقره، وكذلك الذي يرى النار في أطراف المدينة فيعتقد أنه بمنأى عنها ولا حاجة له ولا لها بالمشاركة في إطفائها، ولذلك يذهب إلى فراشه وهو يقول “اللهم اجعلها رؤيا”، حتى إذا حاصرته في منزله أدرك أن معظم النار من مستصغر الشرر. استسلم التاميل بنمورهم وثعالبهم وانتحارييهم، لأن موازين القوى قد مالت لغير صالحهم، ولم تترك لهم سوى خيار الموت وإلقاء السلاك والإقرار بالأمر الواقع، وقد أدركوا أن العالم لا يعترف سوى بالمنتصرين، وما كان معروضاً عليهم بارداً مبرداً أصبح اليوم بعيد المنال.
وهنا تأتي مسؤولية المنتصر جبراً، فإن هو أغرته القوة وسكر بالإنتصار وأدار ظهره لأخيه لمنهزم فقد ركب مركباً صعباً وبدد انتصاره، شأن القابض على الماء، يتسرّب من بين أصابعه، وإن هو أدرك مسؤولياته الجسيمة وقد غدا مسيطراً كبح جماح النفس الأمارة بالسوء، واتخذ من سياسة الأنبياء والرسل في العفو عند المقدرة، وإنصاف المظلوم، وتأليف النافر، وتقريب الحانق، وتأمين الخائف، وإعاشة الجائع، وتشغيل العاطل، منحى أخلاقياً وإنسانياً وأخوياً مؤسساً لعقد اجتماعي جديد، وكف بذلك أيدي السفهاء والمتزلفين والإنتهازيين وذوي البطر المقيت ممن ينفرون العباد ويتسغلون البلاد ويأتون على المزاد، ويقولون “إنما أوتينا الملك على علم منا وعلى تكليفٍ من ربنا”، وما علموا أن الأيام يداولها الله تعالى بين الناس، ولا يرث الأرض سوى عباد الله الصالحين. نعم أيها السادة… استسلم التاميل وقد كانوا نموراً يشربون كاسات الموت كما يشرب غيرهم كاسات الحياة بذلة، وعلى السنهاليين شركاء الوطن أن يدركوا أن مسؤولياتهم قد تضاعفت، وشعاراتهم قد وضعت في كفتي الميزان، ولن يعطيهم الدهر غير فسحة من الوقت إن لم يستوعبوا مغازيها انقلبت عليهم حرباً ضروساً.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s