عطش الحالمين ومقت القوالين

من المدينة الحالمة (تعز) تسلمتُ عبر الفاكس عدداً من المطالعات والمراجعات وكتابات من نوع {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}، ذلك أن هذه المدينة الفاتنة قد أصبحت شبه فانية بسبب شحة المياه، واستخدم كلمة (شحة) من باب تخفيف وقع الأمر على صاحب الأمر، وإلا فالحقيقة أن المياه قد انعدمت تماماً في أحياء كثيرة، واصبح السكان يتخبطون كمن به مس للبحث عن رشفة بأغلى الأثمان، وأعرف أناساً هجروا منازلهم وتركوها للبى سعياً وراء أمل خلب بماء سلسبيل لا يجدون إليه سبيلاً، وليس لهن عنه بديلا، ولك أن تتخيل المعاناة إلى حد الذل لأصحاب الدخول المحدودة من الفقراء والمساكين وابن السبيل والغارمين من الذين فاضت بهم العشوائيات وتورمات بيوت الصفيح، وكذلك سكان العلالي الذين تسلقوا أشناف الجبال لعلهم يمدون إلى السماء سبباً فما وجدوا في علاهم وذراهم سوى العطش، لأن تعز الدامية – عاصمة أكبر محافظات اليمن سكاناً – بلا بنية أساسية بكل معنى الكلمة، شوارعها زواريب، وخدماتها نفاياتـ وسيولها خراب ودمار، ولم يعد الأمر يحتمل المعالجات الجزئية والمشاريع الوهمية التي تبرق وترعد على الورق، ثم تتلاشى وتنسى، ومن مدير إلى آخر، ومن محافظ إلى ثان، وثالث ورابع، والحال يسوء فيما السكان يتزايدون، والصغار يتربون وسط أمراض المياه الملوثة التي بالكاد تصل إلى المحتاجين الذين أنسيوا الاستخدامات العديدة للماء الذي هو ينبوع الحياة، واكتفوا بالشرب مع التقنين، أما النظافة وإرواء الشجر ورش الردهات في القيظ وتصريف المجاري فقد أصبحت خلف الأحلام مثل “ليت في وادي عسى”، وقد كتب الزميل عبدالسلام نعمان الجرادى ما يمكن اعتباره صرخة المظلومين الذين ستفتح أبواب السماء أمامهم من الذين يجاهدون بسهام الأسحار من الدعاء المستجاب، وكان خطاب الزميل موجهاً للأخ رئيس الجمهورية: “الحياة في تعز ليست مجرد دوام وظيفي وهنجمة، وإنما يفترض أن تكون حالة بعث تعيد للمدين مكانتها، والمحافظ ما لم يغادر عقدة أنه الأصلح والأنسب لتعز فسوف يواجه مليوني مواطن لن يخرجوا إلى الشوارع بحثاً عن غيره، وإنما سيرفعون أصواتهم لتصل إلى أبعد مدى، المحافظ الذي لم يرحم أطفال المدينة وهم يحملون دبب الماء على ظهورهم لن ترحمه نظرات العامة يوم يلمحونه يمتطي خواء الزمن”. الزيل محمد عباس السراجي استبشر خيراً بتصريحات وزير البيئة والمياه عبدالرحمن فضل الإرياني والذي اعترف بوجود خلل إداري ومالي في المؤسسة المحلية للمياه والصرف الصحي، واعتبر الزميل ذلك نقطة الإنطلاق نحو تصحيح الإختلالات بعد وصول الجهود المختلفة لإخراج المؤؤسة من الركود والجمود والفساد إلى طريق مسدود وعجز كامل يعترف به الجميع، مشيراً إلى أن المؤسسة كانت قبل أربع سنوات تعيش وضعاً إيجابياً ووضعاً مادياً مشرفاً، وهنا ينبغي أن نضع ألف علامة استفهام حول الذين يستنزفون المصالح ذات الصلة بالخدمات الحيوية للناس، ثم يتركونها قاعاً بلقعاً قد لا تستعيد فاعليتها إلى بعد سنوات إن وجدت الجهود المخلصة والضمائر النقية والضوابط والمراقبة والمحاسبة، حتى لا تكون كما أشار الزميل الجرادي “لولا وجود بعض المخلصين في المجلس المحلي لتعز لكانت أسوأ مدن الدنيا”.
تصوروا هذا حال مدينة تعتبر من درر اليمن ومن مفاخرها، لطالما كانت عاصمة وملكة متوجة، ومن يتوغل في جبلها المنيف (صبر) وصولاً إلى (العروس) سيرفع يديه إلى السماء ويشكر الله تعالى على ما أبدع وصوّر، وترحماً على الأجداد الذين بنوا المدرجات وخضروها وعمروا الأرض، أيام كانوا في معزل عن الدول الظالمة، يأكلون مما يزرعون، ويلبسون مما ينسجون. وقد روى الزميل الجرادي قصة من المبكيات المضحكات سمعتها بنفسي أيضاً من فم راويها شيخ الصناعيين اليمنيين الحاج علي محمد سعيد الذي اقترح بناء سدين منيعين لحجز مياه الأمطار وإعادة استخدامها على نفقته ومع ذلك أعطي أذناً من طين وأخرى من عجين:
لقد أسمعت لو ناديت حياً=ولكن لا حياة لمن تنادي
الأخ رضا الأغبري أرسل إليّ قصة (إدارة عموم الزير) للدكتور حسين مؤنس حيث أمر الوالي بوضع زير ماء تحت شجرة ليشرب منه العطاش، ولكن البطانات الفاسدة أو الأرزقية حسب تعبير محمود السعدني حولوا الزير إلى مرفق شعبي مع جهاز إداري وإدارة مالية، ولضيق المجال أصل إلى الخلاصة، وهي أن الجهاز أخذ يكبر وهات يا سفريات ويا مؤتمرات ويا بدل حتى أن أحداً لم يدرك أن الزير لم يعد له وجود منذ سنتين، وأن الحركة الدائبة ليست سوى أكل عيش وضحك على ذقون العامة واستنزاف لأموال الدولة، وقد اكتشف الوالي ذلك بنفسه بمجرد زيارة ميدانية مفاجئة بدلاً من التقارير التي يكتبها المستفيدون بزكون فيها أنفسهم وأعمالهم، ويتمننون بما لم يعملوا، {كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}. صدق الله العظيم.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s