ليت ملي مَلَكَةُ الجاحظ حين كتب (البخلاء) لأكتب عن الغشاشين الذين ملؤوا الأسواق لا يراعون في الله تعالى والناس ولا في ضمائرهم – إن وجدت وهيهات – إلاً ولا ذمة، وترى الواحد منهم هاشاً باشاً ومدججاً بالإيمان المغلظة وهو يعلم علم اليقين أن ما يبيعك هو محض كذب وغش وتدليس، فإذا عدت إليه أنت الغافل تجد وجهه مُربداً وهو كظيم، أما نقودك فيراها حلالاً بلالاً عليه ولو كانت مضمخة بعرق العمل وعناء التحصيل ولهفة الحاجة، وستكون محظوظاً إذا سلمت من لسانه ويده، ذلك أن قانون الغش هو الذي يحكم الأسواق التي أصبحت “سداح مداح”، وما من محتسب كذلك الذي كان في العصور القديمة يجوب الأسواق ويعمل عصاه في ظهور الخُطاة، ثم يرغمهم على استعادة البضاعة ثم إتلافها وفق منطوق الحديث النبوي الشريف “من غشنا فليس منا”.
قبل يومين أو ثلاثة وقعت في براثن بائعة آسيوية تدير (دُكيكن) وليس دكاناً لفرط صغره وهوان قدره، فاستقبلتني بمعسول الكلام “هلو… هاواريو سير… كان آي هلب يو”، قلت لها أريد عطراً “أوريجنال” هدية لإنسان عزيز، قالت أبشر، وجاءتني بقنينة بالغة الأناقة “من برع الله الله، ومن جوة يعلم الله”… قالت لي هذا يباع لدى الوكيل 220 درهماً، ولأنني أريد أن أكسبك أبيعه لك بـ 180 درهم، قلت في نفسي مردداً لحناً يمنياً سكنني من دهر “هكذا… هكذا وإلا فلا”.
قل يا سيدي عدت إلى المنزل وفتحت القنينة فوجدت بعد التجربة ماءً ملوناً ليس له عطر، لم أصدق نفسي، فطلت من الأولاد الذين ما زالت آنافهم بالغة الحساسية وسريعة الالتقاط شمّ العطر، فقالوا لي: “والله يا بابا ما في أي رائحة، إيس وداك تشتري عطر من بقالة؟” قل عدت إليها وأنا أحاول ضبط نفسي، أول ما رأتني في الشارع قبل أن أفتح الباب أخرجت الوجه الخر الذي يشبه (الصندل) المقلوب، وما فيش “ولكم” ولا “هالو سير”، فقط “ييس”، أي نعم جافة، ماذا تريد؟ قلت لها: “العطر طلع ماء أيتها الحسناء”، قالت: “أنا ما عندي مصنع، وإنما مثلك أشتري من الأسواق، وبعدين العيب في أنفك مش في العطر الفاخر “الأوريجنال”” وكانت بعد كل كلمة تنطقها تتنمر أكثر فأكثر، قلت لنفسي: “الباب يا ابن النقيب، ما فيك حيل للمشاكل”، وكان بجانب الباب سلمة قمامة رميت فيها القنينة وأنا أقول “عليه العوض ومنه العوض”، ووجدت لها عذراً أنها مجرد بائعة، وربما كانت تصرف على عائلة في بلدها، وحين سألني الأولاد قلت لهم أنني قلت لها ما لم يقله مالكٌ في الخمر، وأنا أعادت لي النقود ورجلها فوق كتفها.
هذا عن أم العطر، فماذا عن صاحب اللحم الذي أتعامل معه منذ عشر سنوات، وأثق فيه ثقتي بنفسي، في كل مرة أشتري منه كنت أختار وأقف عليه بنفسي وهو يصفي الدهون ويستل العروق بحرفية الفنان المقتدر الذي ينجز لوحة بديعة، في ذلك اليوم أرسلت إليه ابني، وأكدت عليه بالتلفون، ولكن الطبع يغلب التطبّع، فما إن لاحظ انشغال الولد بالتلفون وخروجه المتكرر إلى الشارع حتى استبدل رأس الماعز بلحم ما أنزل الله به من سلطان، وحين أتى به الولد إلى البيت ضجّ من في المطبخ: “ما هذا؟! ما هذا؟! خير إن شاء الله؟”، قالوا: “لا نستطيع التعرف على هذا اللحم، هل هو عجلٌ أم بقري أم جملي؟”، قلت لهم “لا تثريب عليكم وفالكم خير”، أخذته وذهبت إليه، فإذا بوجه الآسيوية الذي حدثتكم عنه قد علا سحنته المنكرة، “هذا يا بابا أصلي، هذا وارد باكستان، يجي أمس بالطائرة”، قلت “إحلف بالله”، فأقسم بالمغلط “قالوا للحرامي احلف قال جاء الفرج”، تركت له اللحم وقلت له: “هذا هدية من عمك فضل، أخذه شاكراً وهو يقول: “بابا هذا في زين… أحسن لحم”. أما أبو الخضار فقد اشتريت منه صندوق برتقال وقلت له: “ما فيني حيل، أفرغه في كيس كبير، وادقق فيه، ما أريد أي حبة خايسة، ولن أبايعك في السعر”، قال “أبشر”، وعندما وصلت إلى البيت وفتشه الخبراء طلع نصفه خائس… ماذا نفعل يا إلهي؟ العالم مبني على الغش والضمائر ميتة.