أمنا المريضة

كوكب الأرض الذي نعيش عليه هو أكثر من أم للبشرية، فمنه خلقنا وإليه نعود، وبين الميلاد والرحيل نتنفس هواءه ونشرب مياهه ونتغذى على ثماره، وحين نؤذي أمنا فإنما نؤذي أنفسنا لا محالة، وهذا نوع من العقوق لا يغتفر، وقد درج الناس على الإضرار بالبيئة دون وعي يقوانينها التي قيل عنها لفرط حساسيتها أنه حسين يخفق جناح فراشة في شرق أفريقيا فإن إعصاراً تفاعلياً قد يضرب الكاريبي في أقصى الأرض، وفي العادة فإن الناس لا يتعظون ويتحرّكون للعمل إلا حين يكون الخطر ماثلاً وداهماً وملموساً لمس اليد، وحتى في هذه الحالة فإن البعض من عتاة الجهلة لا ينظرون إلى أبعد من أنوفهم، ولا تهمهم الأجيال القادمة التي ستدفع الثمن الفادح، ويقول الواحد منهم “عيشني اليوم وموتني بكرة”، ولا ينفع معهم غير القوانين الصارمة والتطبيق الحازم. خذ مثلاً الغطاء النباتي الطبيعي الذي اجتثه الناس في بلادنا طلباً للحطب أو المرعى، فتصحرت مانطق كانت خضراء تسر الناظرين، وخذ التلوث في المدن عبر القمامات المتكدسة التي لا يعاد تدويرها، وشبكات المجاري المهترئة بتقادم الزمن، أو غير النافذة إلى مستقر لها بعيداً عن التجمعات السكانية، فهي تصب في البيارات ثم تغوص في أعماق الأرض، وتختلط بالمياه النظيفة، كم من الأمراض تنتج عن هذا الحال؟ وكم تتكلف الدولة والناس من مصاريف العلاج التي لو صرف جزءٌ بسيطٌ منها لمعالجة جذور المشكلة لكان في ذلك إنقاذ لأرواح، طبعاً الناس في غفلتهم لا يدركون أن هذا البلاء الذي يطالهم وأطفالهم قد صنعوه بأيديهم، والدوائر المختصة تتخذ تدابير جزئية أو وهمية، وتستعرض بطولات وإنجازات على الورق، وما من نظرة شمولية للنمو السرطاني للمدن وللعشوائيات على أطرافها ولتزايد السكان بوتيرة أرنبية. الصين حين أرادت وقف الكارثة السكانية اختارت العملية الجراحية المضمونة، وهي تحديد النسل بواحد، ونحن لم نصل بعد إلى هذه المرحلة ولكننا بحاجة إلى تصور بانورامي لمواردنا من السكان ومواردنا من الطبعية، والعمل والعقل الإنساني المتعلم المؤهل الذي أصبح لأول مرة في التاريخ أحد أهم الموارد الإقتصادية في ظل الثورة المعلوماتية، كم من السفن العابرة تلقي بمخلفاتها في مياهنا الإقليمية فتقتل الأحياء البحرية، وتدمر الشعب المرجانية ولا تجد من يحاسبها، ومن أمن العقوبة أساء الأدب، ولذلك نجد الكثير من الشواطئ ملوثة ومتروكة للبحر ليعالج نفسه بنفسه، ونجد كثيراً من مراعي الأسماك مدمرة نتيجة التلوث أو نتيجة الصيد الجائر الذي تقوم به أساطيل تأتي من أعالي البحار.
على كل حال، هذا موضوع قد أشبع صرخات ولكن لا يحاة لمن تنادي، ولينظر من أراد أن يلقي السمع وهو شهيد إلى الدراسات حول المياه الجوفية الناضبة، والتقاري حول استهلاك القات (القاتل) من تلك المياه بعد أن أدى التغير في مناخ الأرض إلى اختلال الدورة المطرية، فأصبحت الوديان التي كانت عامرة بالمياه ضحلة إلا من الطين والأحجار، والآن يتقاتل السكان مع النبات والحيوان على ما تيسّر، مع أنهم جميعاً في دورة حياتية واحدة، فإذا جار أحد أركان المعالدة كان كمن يطعن نفسه ويحتسي دمه.
الأسبوع الماضي أحيا العالم يوم الأرض، وجرى استعراض المخاطر الكونية كالانبعاثات الغازية، وما قادت إليه من زيادة دردة جرارة الأرض التي أذابت جزءاً كبيراً من جليد القارات القطبية، مما أدى إلى زيادة مياه البحار التي ستغمر مستقبلاً المدن الساحلية المنخفضة، والجزر ودلتاوات الأنهار العظمى، فتشرد الملايين وتعدم مصادر الرزق لملايين أخرى، فتضيف إلى مآسى العالم مآسي جديدة قد تؤدي إلى إشعال الحروب على مصادر المياه، والحروب الأهلية على الأرزاق، ذلك أن المأساة لا تلد سوى المأساة، كما لا تلد الحية إلا الحية.
التوقعات تشير إلى أن زيادة درجة حرارة العالم ما بين 1.8 درجة و 4 درجات مئوية بحلول نهاية القرن ستؤدي إلى عواقب وخيمة جداً، خاصة لأشد الناس ضعفاً ممن هم براء من تغير المناخ، ستتغير الدورة المائية، وربما كان التغير لصالح المحيطات أكثر منه لصالح المعمورة، وسيتأثر نتيجة ذلك الأمن الغذائي لأن أنماط الرياح ومسارات العواصف وزيادة كثافة الأعاصير المدارية وزيادة ناقلات الأمراض المعدية وتوزيعها هي تصحيل حاصل لم يعد في مجال التكهنات، وإنما نعايشه تصاعدياً عاماً بعد عام، هذه المتغيرات ستهدد أيضاً التنوع البيئي ما يؤدي إلى انقراض نسبة 20 إلى 20% من الأحياء والنبات.
الخلاصة أنه في عالم أناني يحاول فيه كل واحد إنقاذ نفسه، لا مجال لإغماض العيون، وعلى كل بلد أن يقلع شوك قدميه بيديه، فهل نحن فاعلون؟

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s