يبدو أن الرفاق في كوريا الشمالية التي أوقفت العالم على قدم وساق بتجاربها النووية والصّاروخية وتحدياتها التي لا تنتهي، مطّلعون جيداً على الأمثال الشعبية اليمنية، وقد اختاروا منها عنواناً لمنهجهم السياسي ذلك المثل القائل: “جُنان يخارجك ولا عقل يحنبك”، فهذه الدولة الصغيرة (32 ألف كم مربع) وعدد السكان أقل قليلاً من 23 مليون نسمة – بعد أن مات منهم ثلاثة ملايين في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي بسبب مجاعات كاسحة حسب تقديرات المنظمات الإنسانية قادت إليها فيضانات كبرى نتج عنها نقص مزمن في المواد الغذائية – هذه الدولة متوغلة في رهانات كبرى وتحديات إقليمية ودولية ضمن منهج غامض لا يمكن معه التنبؤ بردود أفعالها لأن القرار في رأس رجل واحد وفقاً للشمولية التي تعتبر بيونج يانج النموذج المطلق لها في عالم اليوم المتجّه إلى الانفتاح والشفافية والبحث عن ملاذات في القانون الدولي وتعميق الثقة والوفاء بالتعهدات وتشجيع التعاون الإقليمي والتفاهم العالمي، ذلك أن دولة صغيرة لا تستيطيع أن تغيّر العالم، ولكنها بكل تأكيد تستطيع أن تغيير نفسها لتتوافق مع مجتمع الدول، ولكن الزعيم (كيم جونج ايل) الملقب بشمس القرن الواحد والعشرين، والذين تصفه الدعاية الرسمية التي تعود إلى فترة الحرب الباردة بأنه “الرجل الذي لا يُقهر”، لم يصل بعد إلى القناعات المريحة التي تحلّ التنمية والبناء والتسلّم محل عسكرة الحياة والإنغلاق والتوجّس الدائم، وللتدليل على ذلك فإن عديد جيش كوريا الشمالية يبلغ مليوناً ومائتي ألف رجل تحت السلاح ولا همّ لهم سوى تسليط المناظير على أشقائهم الجنوبيين وعلى بحر اليابان وجزره ليرصدوا كل حركة وكل نأمة ليل نهار، فمن أين تأتي السكينة والتنمية؟ وكيف تنمو الأزهار وبيادر القمح في حقول البارود والتجارب النووية والصاروخية؟ وبسبب هذا الشدّ العسكري الدائم فإن مناحي الحياة الإنتاجية الأخرى تسير بالسُّخرة، وتوزّع مردوداتها بالحَظوة وفقاً للسُّلَّم العسكري والحزبي.
وفي ظل غياب المبادرة الفردية وانعدام الحوافز؛ فإن إجمالي الناتج المحلي للكوري الشمالي لا يتجاوز 600 دولار سنوياً، ولذلك تعدّ من بين أفقر دول العالم بينما تعدّ شقيقتها كوريا الجنوبية على بعد مرمى حجر من أغنى دول العالم ومن نمور آسيا المتوثبة اقتصادياً وصناعياً والمبدعة في ثورة المعلوماتية وصناعة السيارات والبواخر وإنجاز مشاريع البنية الأساسية في مختلف دول العالم باقتدار وإتقان مشهود لها، ولم يقدّر لهذا النموذج الجنوبي – الذي رعته الولايات المتحدة الأمريكية كما رعت اليابان وألمانيا عقب انتهاء الحرب العالمية – أن يشحّ على الشمال الذي يلحّ على المساعدات من سيول ولكنه لا يريد أن يقدّم شيئاً مقابل ذلك، ومرة أخرى فإن في ذلك استلهاماً للمثل اليمني: “حسنة وأنا سيدك”. وقد يتساءل البعض عن سرّ هذا الجمود وإلى متى، فيُحار الخبراء في تقديم جواب لعجزهم عن سبر العقلية التي تقود هذه البلاد، ولكنّ أحد المتخصصين في شؤون كوريا الشمالية (اندريه لانكوف) يجيب ببساطة لافتة: “إن سرّ هذا النظام بسيط وهو لا مبالاته اللاّفتة بمعاناة شعبه”.
ويبدو لي أن الرجل أصاب كبد الحقيقة لأن المسؤولية تقتضي التفكير الدائم وإعادة النظر واستلهام تجارب الآخرين في عالم “تكلّم فيه حتى الحجر” أما اللاّمبالاة فهي إذا ركبت نظاماً من النظم يعتمد على السّوط والعصا وزنازين الاستخبارات كمقوّمات للإستمرار فإن نتائجها لن تكون إلا ما نرى ونسمع، وقد خبرنا في عالمنا العربي نظماً وزعامات كانت تقترب بصورة أو بأخرى من تجربة بيونج يانج لجهة عبادة الشخصية وإلغاء عقول الناس وسوقهم كالقطعان إلى حروب مجّانية ومجازر إرهابية ومغلقات ايدلوجية شعاراتية، ولا داعي للتسمية و “خلي الطابق مستور” ذلك “إن الطيور على أشكالها تقع”، وفي الأخير لن يأكل الناس قنابل نووية ولا صواريخ بالستية ولا شعارات ثورة لفظية، “فلا بد للّيل أن يجلي، ولا بدّ للقيد أن ينكسر”.