
مداخلة نقدية لفضل النقيب
حول رواية شجرة الفهود للكاتبة سميحة خريس كتبت في جريدة الاتحاد وقيلت في ندوة في اتحاد كتاب الامارات.
هذه المداخلة ليس الغرض منها النقد ولا العرض، وإنما هي سوائح وخواطر على هامش القراءة، تهدف لإثارة حوار مثمر حول عمل جيد، وإذا أضفنا إلى ذلك أن صاحبة العمل زميلة صحفية لنا وكاتبة عرفتها ساحة الإمارات الثقافية منذ أكثر من عشر سنوات فلا شك أن ذلك يشكل حافزاً أكبر لكي نساهم جميعاً في إغناء هذه الرواية، وتسليط الأضواء على جوانبها المتعددة. بالنسبة لي شخصياً فقد سبق لي أن قدمت عرضين لهذه الرواية، واحد في مجلة درة الإمارات والآخر في جريدة الإتحاد، وبالتالي فليس لي أن أكرر ما قلته أو أعيد عرضه، وقد أحضرت معي صوراً لهذين المقالين وإن كانت محدودة للمهتمين ممن لم يطلعوا عليها، وممن يرغبون في ذلك.
بدءاً أحب أن ألقي بعض الضوء على الرواية في الأردن الشقيق، لأتبين مكانة رواية (شجرة الفهود) للروائية سميحة علي خريس من مسيرتها.
يجمع النقاد على أن البداية الفعلية للرواية في الأردن جاءت بعد نكسة حزيران/يونيو 1967 على يدي أمين شنار في روايته (الكابوس) و تيسير سبول في روايته (أنت منذ اليوم) ويضيف البعض رواية سالم النحاس (أوراق عاقر) الصادرة في فبراير 1968، ويؤكدون أن رواية تيسير سبول هي التي تركت بصماتها على الرواية الأردنية بسبب تطور تقنياتها وحدة رؤيتها وعمقها، وقد قامت على أساس تفتيت الشكل بما يوازي التشظي الذي أصاب المثقف العربي بعد حرب حزيران، ذلك في الستينات، حيث أعقبت تلك الروايات فترة ركود، وفي أواخر السبعينات ظهرت رواية (المتميز) لمحمد عيد و (العودة من الشمال) لفؤاد القسوس، وقد اتسمت الأولى بطابع الضياع والتشتت والصدقية لأبطالها بسبب الأحداث السياسية على الساحة، أما الثانية (العودة من الشمال) فهي أقرب للعمل التسجيلي الوثائقي عن تطور المجتمع الأردني من خلال العلاقة مع المجتمع المدني المتمثل في دمشق في مرحلة مبكرة من قيام الدولة في الأردن. وفي مطلع الثمانينات، وبعد بصدور رواية هاشم غرايبة (بيت الأسرار) بدأت الحياة تعود إلى الكتابة الروائية، وفي تلك الفترة عاد إلى الأردن بعض روائييه من الأقطار العربية وفي مقدمتهم مؤنس الرزاز التي اعتمدت أعماله الروائية – حسب تعبير أحد النقاد – على محوري الهزيمة والقمع وذلك في رواياته (أحياء في البحر الميت) و (اعترافات كاتم صوت) و (متاهة الأعراب في ناطحات السحاب) وحتى (كتاب الشظايا والفسيفساء). وعلى نحو مختلف عبّرت تجربة إبراهيم نصر الله في رواياته الثلاث (براير الحمّى)، (عو) و (مجرد 2 فقط) عن الهموم الفلسطينية والهزائم العربية.
والملاحظة الرئيسية التي سجلت على الرواية الأردنية هي غياب المكان كبطل في النص الروائي، وأرجعوا ذلك إلى حداثة نشأة المجتمع المدني في الأردن وسيادة العلاقات البسيطة غير المعقدة نظراً للطابع العشائري السائد، ولذلك وجدنا روائياً كبيراً مثل عبدالرحمن منيف – وهو الذي ولد في عمّان وقضى طفولته فيها – حين أراد أن يكتب عن المكان لم يجد وسيلة لذلك سوى شكل المذكرات في كتابه القيّم (سيرة مدنية) حيث عاد بنا إلى النشأة الأولى والشخصيات التي كانت نجوم ذلك المجتمع وأساس تشكله المدني ونواته التي تفرعت وأزهرت بعد ذلك.
سميحة خريس عادت بنا إلى فترة مبكرة من تاريخ الأردن، وحشدت لذلك ذاكرتها الأسرية، ومعرفتها، ودققت في تفاصيل الحياة، ورصدت التطورات، ولم تغفل حتى ملابس الناس وشؤون حياتهم اليومية وطرق معايشهم ووسائل تنقلهم وأفكارهم، لذلك فرواية شجرة الفهود محاولة جريئة ومفعمة بالحيوية للإحاطة بنشأة وتطور مجتمع مدني حديث، وكيان سياسي وليد يشق طريقه بصعوبة – ولكن بثبات – وسط وابل من قيم البداوة والريف السكوني والتقاليد العربية القديمة، ووسط تدخلات خارجية ومن محيط لا يسمح لذلك المجتمع أن ينمو بقوانينه الخاصة، وبطموحات وأشواق سكانه إلا بقدر، الأمر الذي يولد التناقضات وتعدد الرؤى والصراع والإنقلاب في المفاهيم، وبالنتيجة فإن الحياة الجديدة تفرض قيمها وقوانينها ونظرتها دون تعسف ودون حسم الأمر الذي يؤكد أن أي معطى تاريخي لا يندثر وإنما يتحوّل.
الرواية تمتد على مساحة زمنية منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى وحتى نهاية الخمسينات، وهي مرحلة اضطراب ومخاض بالنسبة لتلك الأرض العربية ، فقدت شهدت تلك المرحلة هزيمة المشروع القومي العربي المتمثل بالثورة العربية الكبرى، وشهدت نمو الحركة الصهيونية وإقامة دولتها على أرض فلسطين العربية، وهزيمة الجيوش العربية، كما شهدت تشديد قبضة الاستعمارين الإنجليزي والفرنسي في المنطقة، إضافة إلى الآمال القومية التي فجرتها ثورة 23 يوليو 52 في مصر على المستوى العربي.
الأردن – الأرض والكيان كان في قلب كل تلك التحولات، إذا عصف المد في أي بلد مجاور فإن المياه تغمره، وهذا القدر الذي لا فكاك منه جعل الخصوصية المحلية تتوارى في الظل أغلب الأحيان لدى كتاب الرواية السابقين عليها والمعاصرين. يقول الناقد الدكتور فيصل ابراح: “إن من يعتقد بأن الرواية الأردنية هي فقط تلك التي يكتبها أردني يعيش في الأردن ويتحدث عن الأردن وحده فلا أظن أنه سيجد رواية واحدة تنطبق عليها هذه المواصفات.
سميحة خريس حاولت ذلك، ولكن بدون قسر، وبكثير من النمنمة المتعبة حتى أنك لتكاد تشم رائحة الهضبة في الورق، ولكن أيضاً بحدود، هي حدود الأردن نفسها، فالهضبة (هضبة الفهود) أو شجرة الفهود تقع في إربد، أي في سهل حوران الذي يمتد في الأردن وسوريا، وربما من أعلى الهضبة تستطيع بالعين المجردة أن تشاهد مدن فلسطين.
وبودي أن أضع أمامكم الملاحظات الآتية:
1) لقد كان الهم الإنساني هو المسيطر على الرواية، وقد نجحت الكاتبة في تجنب الإنزلاق إلى الإنشاء السياسي أو الإفتعال الرمزي، وأبقتنا طوال الرواية على تماس حميم مع أشواق ومشاعر وإحباطات وتطلعات إنسانية، على الرغم من الإغراءات التي يمثلها الرمز السياسي، والذي احتل مكانه في إطار الزمن النفسي للشخوص وفي إطار تجذر الوعي الذي يفرضه.
2) احتلت المرأة مكاناً مميزاً وشفافاً وواقعياً في الرواية، وقد حرصت الكاتبة على أن تتوغل في نفسيات شخصيات الروائية النسائية، فقدمت لنا بانوراما مدهشة لوضع المرأة ومساهماتها الكبيرة في العمل المنتج، وفي تلقف واستئناس وتنمية الظواهر الحضارية الوافدة، الأمر الذي يؤهل النساء لدور كبير في الحياة المعاصرة من واقع طاقاتهن وأشواقهن الإنسانية.
3) الرواية اكمتلت ولكنها لم تنته، فهي من نوع روايات الأجيال التي يتشوق القارئ إلى معرفة مصير أبطال الصف الثاني والثالث، وبالتالي فقد أبقت الروائية احتمالات رفدها برواية جديدة مفتوحة على كل الإتجاهات، ولا شك أن الأمل يراودها أن تستمر معها برواية جديدة، وإن كانت ستكون أكثر تعقيداً لما طرأ على المجتمع والحياة من مستجدات متشابكة، الأمر الذي يبعد الكتاب عن الخوض في هذا النوع من الرواية الشمولية التي تحتاج إلى جهود ضخمة ومعالجات معقدة حتى لا يتوه الخاص في العام، ويصبح الأبطال مجرد نماذج لا تمتلك الخصوصية… ولكن هذا تحدّيها الشخصي ككاتبة
4) لاحظتُ أن الكاتبة – ربما حين تتعب – تختصر بنيتها الفنية بالوصف من الخارج رغم أنها امتلكت لغة للحوار غنية وحيوية وغير مغرقة في عامية مبهمة أو فصحى متقعره، وهذا الميل للوصف ربما جاء من بداياتها في القصة القصيرة، وقد أفسد عليها هذا النهج حرية أبطالها في الحوار الداخلي (المونولوج) والذي ربما كان فجّر أشواقاً لا يستطيع الواصف أن ينسبها إليهم، لأن الشخصية في الرواية إذا ما وقفت على المسرح بمفردها تؤدي دورها بتغني واسترسال، وتحلم وتفكر كما تشاء بعيداً عن سطورة المؤلف. ويحضرني في هذا الصدد مقولة لمؤرخ إنجليزي كبير يقول فيها ما معناه “أن المونولج هو الأساس في الحياة الإنسانية، أما الحوار فلم تتعلم وتتعود عليه الإنسانية سوى منذ فترة قصيرة، فقد كان سكان أثينا يتجمعون في الساحات ليتحدثوا إلى أنفسهم لا إلى غيرهم، وبالتالي فمخزون الحضارة وشوق الحياة غالباً ما يتجسد في حوارنا مع أنفسنا”.
5) أعجبني وشدني في هذه الرواية التناول الإنساني الراقي والمنصف لدور النـّور أو الغجر في الحياة الريفية والمدنية، وتلك الشاعرية والقيم النبيلة التي تحتويها نفوسهم، وهؤلاء غالباً ما تعرضوا للنظرة الدونية من قبل فئات كثيرة في المجتمع، وأعتقد أن من أكبر مهام الروائيين تصحيح مثل هذه الصور في الحياة ليصبح القارئ أكثر إنسانية وإحساساً بالآخرين الذين يعيشون معه، وهذا التحيز الإنساني نلمسه جميعنا بصور مختلفة وأشكال متعددة في كل المجتمعات، والكاتب الحقيقي يحتاج إلى شجاعة كبيرة ليقول لمجتمعه: “هذه الصورة خطأ، ويجب تصحيحها، لأننا كبشر نحتاج إلى أن نقترب أكثر من بعضنا لا أن نسمم الحياة بالمزيد من السوء”.
هذه بعض الملاحظات كتبتها على عجل، وقد تجنبت إعادة ما سبق لي أن كتبته حول هذه الرواية الممتازة، وهذا الروائية المبدعة.