مشايخ الغناء اليمني

محمد مرشد ناجي
محمد مرشد ناجي

جيلٌ من الفنَّانين الرُّوَّاد مرُّوا بحياتنا كالأنسام الرقيقة في فصل الربيع، وكانوا واسطة العقد بين الغناء القديم المُترع بجماليات الشِّعْر وعُذوبته، والإيقاعات المُوسيقية المُطربة والمُتألِّقة على آلة العُود الشجيَّة مع إيقاعاتٍ خفيفةٍ مُصاحبةٍ وتفاعلاتٍ حيَّةٍ بين الجُمهور والمُغنِّين، وكانت «مخادر» الأفراح هي مسارح الغناء الخاصّ، أمَّا الغناء العامّ، الذي كان جديداً في وقته، فقد كانت الأُسطوانات الشمعية مسرحه المُحدث، وكانت صناعةً جديدةً ترافقت مع صناعة الجرامفونات التي لا يملكها سوى النُّخبة ممَّن أفاء اللَّه عليهم، وكان شارع الميدان في كريتر مقرّ هذه التجارة الجديدة التي تُعلن عن نفسها بقُوَّةٍ من خلال مُكبِّرات الصوت، وعلى مدار أكثر ساعات العمل تسمع النداءات، مثل «أُسطوانات جعفر فُون»، و«أُسطوانات مستر حمود»، و«أُسطوانات طه فُون»، وبعد الحنحنة تأتي الدندنة، حتَّى جاءت إذاعة عدن في مُنتصف الخمسينيات تقريباً، فكانت كعصا «مُوسى»، تلقف ما يأفكون إذ أكلت تجارة الأُسطوانات ومعها سُوق الأغاني، فأصبح الناس بواسطة المذياع يُطربون مجَّاناً وحيثما كانوا.
ومع الإذاعة بدأ جيلٌ جديدٌ من المُطربين يشقّ طريقه إلى أسماع الناس، وفي ظلِّ هذا التطوُّر ولدت المدرسة الجديدة في التلحين، ذلك أنَّ الرعيل الأوَّل، الذي بدأ مُنذُ أربعينيات القرن الماضي، لم يكُن يعرف التلحين، وإنَّما هُو يُردِّد الأغاني كابراً عن كابر وابناً عن جدّ وسابقاً عن لاحق، وجميع الألحان القديمة ليس لها مُلحِّنون معروفون، وإن كان أكثرية الشُّعراء مشهورين، لكأنَّما لحَّنها الشعب بذائقته وأوزان رُوحه، ممَّا أكسبها الخُلود، وأكثرها لا يزال يطربنا حتَّى اليوم وإلى أن يشاء اللَّه، مع بعض التنويع في التوزيع الذي ينتهجه بعض المُتفنِّنين المُتمرِّسين وكبار المُطربين الذين تُرافقنا شُهرتهم حتَّى اليوم، هُم أبناء تلك المدرسة التي عرفت التلحين، فاستجادت من الأشعار العامِّيَّة والفُصحى ما يُناسبها، ومن هؤلاء : «مُحمَّد مُرشد ناجي»، و«أحمد بن أحمد قاسم»، و«خليل مُحمَّد خليل»، و«أبو بكر سالم بلفقيه»، و«سالم أحمد بامدهف»، و«مُحمَّد سعد عبداللَّه»، و«مُحمَّد عبده زيدي»، و«مُحمَّد مُحسن عطروش»، وكوكبةٌ لها أوَّل وليس لها آخر، تربَّت في هذا الكنف المُمرَّع للمدرسة الجديدة التي انتكست مع الاستقلال حين تحوَّلت الأُغنية، بقُوَّة الأمر الواقع، إلى تمجيد النظام.
وعلى كُلٍّ، فذلك حديثٌ آخر، لكن لا بُدَّ من الإشارة هُنا إلى الدور البارز الذي لعبته الأُغنية اللَّحجيَّة في التجديد والإثارة والتحدِّي، فكان لها شُعراؤها البارزون ومُلحِّنوها المُتقنون، الذين تولَّوا قيادة السفينة عقب وفاة رُبَّانها الأوَّل المُبدع الكبير الأمير «أحمد فضل القمندان».
ما أنعش ذاكرتي حول الرعيل الأوَّل، الذي كان ملء السمع والبصر، ثُمَّ مضت به أمواج الحياة إلى ذاكرة النسيان بالنسبة للأجيال الجديدة، ما كتبه فنَّاننا الكبير «مُحمَّد مُرشد ناجي» حول هؤلاء في كتابه القيِّم «الغناء اليمني القديم ومشاهيره»، الذي صدرت طبعته الأُولى عام 3891م، وقد قسَّم الكتاب إلى قسمين : الجُزء الأوَّل احتوى على (3) فُصول، الأوَّل حول الغناء العربي عُموماً، والثاني حول الغناء اليمني : المُوشَّح اليمني نغماً وَشِعْرَاً، الأتراك والمُوسيقى اليمنية، وفي هذا القسم إبحارٌ مُمتازٌ في التاريخ والأُمراء باعتدالٍ ولُغةٍ أدبيةٍ رفيعةٍ عُرفت عن «المُرشدي» في كتاباته وكُتبه.
أمَّا الجُزء الثاني، فتحدَّث عن مشائخ الغناء القديم، وهُم : الشيخ «سعد عبداللَّه»، والشيخ «سُلطان بن الشيخ علي»، والأمير «أحمد فضل بن علي القمندان»، والشيخ «علي أبو بكر باشراحيل»، والشيخ «أحمد عبداللَّه السالمي»، والشيخ «مُحمَّد جُمعة خان»، والشيخ «قاسم الأخفش»، والفنَّان «عُمر محفوظ غابَّة»، والشيخ «صالح عبداللَّه العنتري»، والشيخ «إبراهيم مُحمَّد الماس»، والشيخ «عوض عبداللَّه المسلمي»، والشيخ «أحمد عُبيد القعطبي»، والفنَّان «عبدالقادر عبدالرحيم بامخرمة»، كما اعتذر عن عدم حُصوله على المعلومات الكافية عن الشيخ «فضل مُحمَّد اللَّحجي»، وهذه لفتةٌ كريمة، لأنَّ الكثير من الكُتَّاب إذا أهملوا تغافلوا، كما اعتذر لأُدباء حضرموت، رُبَّما لبُعد الشقة وعدم توفُّر المادَّة التي لا يرضى الأديب المجيد لنفسه عن سقفٍ مُحدَّدٍ يلتزمه.
على كُلٍّ، لنا عودةٌ إلى هؤلاء المشائخ وأثرهم في وجداننا وتاريخنا الغنائي.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s