زينة الحياة الثقافية

معارض الكُتب زينة الحياة الثقافية، وقد أخذ هذا التقليد يترسَّخ عربياً من عاصمةٍ إلى أُخرى، دلالة عودةٍ مُظفَّرةٍ إلى زمن الورَّاقين العظام في بغداد والقاهرة ودمشق وصنعاء والرباط وقرطبة وغرناطة، وحديثاً في بيروت، التي يكاد الحبر يكون عطرها الأكثر رواجاً قبل أن تُداهمها أيدي الغدر المُعادية للحرف وللكلمة وحُرِّيَّة الرأي، ومع ذلك فإنَّ إدمان النشر والنشر المُضادّ لا يزال يُعاود هذه العاصمة كحُمَّى «المُتنبِّي» :
«وزائرتي كأنَّ بها حياء
فليس تزور إلاَّ في الظلامِ
بذلتُ لها المطارف والحشايا
فعافتها وباتت في عظامي»
بالأمس تمَّ افتتاح «معرض أبو ظبي الدولي للكتاب» بحُضورٍ كثيفٍ للناشرين : (736) دار نشرٍ من (25) دولةً من مُختلف قارَّات العالم، ذلك أنَّ الكتاب ليس له جنسيةٌ تُسجِّله باسمها، وليس له لُغةٌ تحتكره، فلا يُكتب بغيرها، وعلى العكس، فإنَّه أحد مقاييس التحضُّر والتواصل بين الأُمم، وحين يُصبح في كُلِّ بيتٍ مكتبةٌ مُتنوِّعة المناهل، فإنَّ ذلك يعني أنَّ شعب البلد المعني قد تجاوز الاهتمامات الحياتية الأوَّليَّة إلى الرقِّي الفكري والنهم المعرفي وبناء الرُّوح مُقابل بناء الأجسام واستطالات الأحجام التي تُفاخر بها بُلدانٌ كثيرةٌ تُنتج أجيالاً ينطبق عليهم قول الشاعر :
«لا بأس بالقوم من طُولٍ ومن عِظَمٍ
جسمُ البغالِ وأحلامُ العصافيرِ»
أعاذنا اللَّه وأعاذكم من أجسام البغال دُون زادٍ للرُّوح لا يُوفِّره سوى الكتاب الذي تُسطِّره الأقلام، التي أقسم بها اللَّه جلَّ وعلا، دليلاً على مكانته البارزة ودوره الرائد وثماره النافعة : «نُوْن وَالْقَلَم وَمَا يَسْطِرُوْن»، كما حثَّ سُبحانه وتعالى على القراءة، لكأنَّها فرضٌ يُلزم كُلّ إنسانٍ تمكَّن أهلوه من تعليمه القراءة والكتابة، وهي المُهمَّة التي أصبحت اليوم في ذمم الدُّول وتكاليفها الشرعية والقانونية، فإذا ما قصَّرت الحُكومات في إشاعة التعليم، فلتبحث لها عن بُلدانٍ في علم الجهل تحكمها، يقول اللَّه تعالى : «اقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِيْ خَلَق خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَق اقْرَأ وَرَبُّكَ الأَكْرَم الَّذِيْ عَلَّمَ بِالْقَلَم».
لا أعتقدُ أنَّ عاقلَيْن مُتوازنَيْن يختلفان على أنَّ الكتاب هُو منارة التنوير الأُولى في حياة الإنسان، وهُو يقوم بالدور الذي تنهض به الفنارات البحرية لإرشاد السُّفن إلى الممرَّات الآمنة وحتَّى لا تصطدم بالصُّخور والشعاب البحرية التي غالباً ما تكون بمُحاذاة المياه الضحلة بالقُرب من الشواطئ.
اللَّه اللَّه، لو ترشَّدت الأحزاب ومُنظَّمات المُجتمع المدني والوزارات المعنيَّة في وطننا الجميل للترويج للقراءة وللكتاب، بعيداً عن تعصُّب المُتعصِّبين البُغاة، الذين يرون فيما يعتقدونه نهاية المعرفة، ومن ثَمَّ يُغلقون الأبواب على الناس لكي يضعوهم في حظائر تُشبه حظائر الأبقار والأغنام، أُمنيةٌ جميلة، لكن يبدو أنَّ دُونها خرط القتاد مع أُولئك الذين قال فيهم الشاعر :
«وعند الشيخ أجزاءٌ كبارٌ
مُجلَّدةٌ ولكن ما قراها»
على كُلِّ حالٍ، يبدو أنَّني كُنتُ محظوظاً بحُضور الدورات التسع عشرة لـ «معرض أبو ظبي الدولي للكتاب»، فقد رافقته مُنذُ أن كان طفلاً يحبو تحت خيمةٍ جرداء إلى أن شبَّ وأصبح عملاقاً في أرض المعارض فسيحة الأرجاء، وقد أخذ الآن يتزوَّد ويتزيَّد بالجوائز الكُبرى، وفي مُقدِّمتها «جائزة الشيخ زايد للكتاب»، و«الجائزة العالمية للرواية العربية»، التد تدارست هذا العام (121) روايةً عربيةً من (61) دولةً عربيةً وصل منها إلى التصفية النهائية (6) رواياتٍ هي : «جُوع» لـ «مُحمَّد البساطي»، من مصر، و«المُترجم الخائن» لـ «فوَّاز حدَّاد»، من سُوريا، و«زمن الخُيول البيضاء» لـ «إبراهيم نصر اللَّه»، من الأُردن، و«روائع ماري كلير» لـ «الحبيب السالمي»، من تُونس، و«الحفيدة الأمريكية» لـ «إنعام كجه جي» من العراق، وقد حصل كُلّ مُؤلِّفٍ على عشرة آلاف دُولار، تقديراً وتشجيعاً، أمَّا الرواية الفائزة، فكانت من نصيب المصري «يُوسف زيدان»، وهي بعنوان «عزازيل»، وحصل صاحبها على خمسين ألف دُولار.
بُوْرِكَتْ معارض الكُتب وما تُقدِّمه من بشائر نحنُ بأمسِّ الحاجة إليها.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s