تلقَّيتُ بالشُّكر والامتنان وخالص التقدير والعرفان، هديَّةً ثمينةً لم أكُن أتوقَّعها بهذا البهاء الذي أطلَّت به عبر البريد، لكأنَّها النسر الملكي المُتوَّج الذي يُحلِّق بأجنحته من الخوافي والقوادم حيثما شاء له الهوى من سماوات الفنّ وعوالم النغم وتجلِّيات الشِّعْر والعُذوبات التي طالما أسعدتنا وعلَّمتنا وصقلت عواطفنا وأثارت أخيلتنا وهذَّبت أذواقنا وعمَّقت محبَّتنا للوطن وأهله، تلك هي «موسوعة شِعْر الغناءاليمني في القرن العشرين»، يا اللَّه كم كُنَّا بحاجةٍ إلى مثل هذا العمل البانورامي الذي جمع فأوعى، وصدح فأشجى، فسدَّ فراغاً فيالمكتبة اليمنية وفي الذاكرة الشعبية، وفي المرجعية التُّراثية (7) مُجلَّداتٍ من أثقال الذهب المُصفَّى للمُبدعين من شُعراء الغناءاليمني، مُرتَّبةً أبجدياً ومضبوطةً بالمعاني التي تحتاج إلى ضبط، والكلمات التي تحتاج إلى شكل، والمُقدِّمات التعريفية التي لا تُثقل على القارئ وتُسعد الباحث وتُنوِّر الهاوي وتُطرب الغاوي.
ويا رعى اللَّه هيئة تحرير الموسوعة التي أشرف عليها زميلنا العزيز العميد «علي حسن الشاطر»، حيثُ أنجزت العمل الذي استغرق سنواتٍ بتواضعٍ ومحبَّة، فلم تضع نفسها في الصدارة، وتركت الإنجاز يتحدَّث عن نفسه، ولنا إلى هذا الفريق، الذي أعتبره نُموذجاً مُلهماً لكُلِّ مَنْ يتصدَّى لعملٍ عامّ، عودة.
أمَّا العجب العُجاب، فهُو أنَّ مَنْ تصدَّى لإنجاز هذا العمل الموسوعي، هُو دائرة التوجيه المعنوي للقُوَّات المُسلَّحة، وليس اتِّحاد الأُدباء أو وزارة الثقافة أو الإعلام، وهذه خاصِّيَّةٌ يمنيةٌ نعرفها نحنُ، وقد يستغربها غيرنا، حيثُ «ماشي على الجودهْ عَلَم»، أيْ أنَّ مَنِ استشعر في نفسه الفُروسية فَلْيَغْزُ البحر بخيله، كما فعل «ذُو نوَّاس»، وبعد ذلك لكُلِّ حادثٍ حديث، على رأي «طرفة بن العبد» :
«إذا الناس قالوا مَنْ فتىً خلتُ أنَّني
عُنيتُ فلم أحجم ولم أتردَّد»
وقيل : «ولم أتبلَّدِ»، وقصَّة الموسوعة رُويت في إيجازٍ شديد، «ما قلَّ ودلّ»، لكن «إذا عُرف السبب بطُل العجب»، فصاحب الفكرة كان الأخ الرئيس علي عبداللَّه صالح، حيثُ كان يقرأ في كتاب «شِعْر الغناءالصنعاني» للدُّكتور «مُحمَّد عبده غانم»، فقال لمُجالسيه : «في هذا الكتاب مجهودٌ طيِّب، وهُو لم يُوثِّق للغناء الصنعاني، كما يُشير إليه عنوانه فحسب، وإنَّما زاد على ذلك فأشار إلى الغناء في لحج ويافع وكوكبان وغيرها من المناطق والأقاليم الغنية في اليمن»، وقد تساءل الرئيس : «لماذا لا يكون هُناك عملٌ موسوعيٌّ يُوثِّق للشِّعْر الغنائيفي اليمن خلال القرن العشرين؟»، وبعد ذلك كلَّف الأخوين العميد «علي حسن الشاطر»، مُدير دائرة التوجيه المعنوي، و«عبَّاس علي الديلمي»، رئيس قطاع إذاعة صنعاء، بوضع التصوُّر المطلوب لتنفيذها وتحديد مَنْ تتمّ الاستعانة بهم، وكان ذلك في أواخر عام 2003.
أمَّا أجمل الكلام بعد إطلاق الشرارة، وهُو من نوع ما عبَّر عنه «أبو الطيِّب» :
«وَمَنْ كُنتَ بَحْرَاً له يا عليُّ
لا يقبل الدُّرَّ إلاَّ كبارا»
وذلك حين وجَّه الرئيس بعدم «إغفال أيّ عملٍ غنائيٍّ يُعبِّر عن مرحلةٍ مُعيَّنةٍ أو يتناقض مع مُستجدَّات اليوم، لأنَّ العمل التوثيقي الموسوعي لا يستبعد عملاً بدوافع سياسية، لذا لا بُدَّ من التعامل مع أيِّ قصيدةٍ وجدت طريقها إلى حناجر المُطربين بمعيارٍ واحد، سواءً أكانت للرئيس علي عبداللَّه صالح، أو الرئيس (عبدالفتَّاح إسماعيل) أو الإمام (أحمد حميد الدِّين) أو الأمير (الحسن بن علي) أو الأمير (أحمد فضل القمندان)، ولا تمييز بين أُغنيةٍ كُتبت للمُؤتمر الشعبي أو الحزب الاشتراكي أو في مدح الإمام أو المُشير (السلاَّل)».
ما أحوجنا إلى مثل هذه الرُّؤية والتسامح في كُلِّ مجالات حياتنا، فكراً وثقافةً وسياسةً وسُلوكاً ولقاءً واختلافاً مع «الآخر»، وكفانا فرعنةً، بحيثُ يمحو اللاَّحق آثار السابق، وليكُن التاريخ هُو الحَكَم في هذه الدُّنيا، كما اللَّه يحكم بين المُختلفين في الآخرة، ذلك أنَّ توازن الحياة ونماءها يقوم على الأضداد، ولكُلّ زمانٍ دولةٌ ورجال، كما نُردِّد عن تلقينٍ وسماعٍ لا عن تأمُّلٍ وفهم.
مُلاحظةٌ للطبعات القادمة، حيثُ من الضرورة بمكان، لاستيفاء الموسوعة فهرسة المُغنِّين وما أدَّوه من نُصوصٍ مع ترقيم القصائد المُشار إليها في الموسوعة، فقد وجدتُ أنَّني قادرٌ على الإلمام بأيِّ شاعرٍ غنائيّ، لكنَّني عجزتُ عن ذلك مع المُغنِّين، والاثنان هُما طرفا العملية الفنِّيَّة في أنَّهما يُكمِّلان بعضهما، هذه مسألة، «والثانية عادها لمَّا تكون»، وهي التنويت، فقد عُيِّب على كتاب «الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني»، الذي تقف له موسوعتنا الندّ للندّ، أنَّه لم يضبط الألحان، لكنَّ عُذره أنَّ عصره لم يعرف الأبجدية المُوسيقية، «النُّوتة»، وقد حاول بالمُصطلح اللُّغوي، فغدر به الزمن.
بقيت الإشارة إلى فريق العمل، وهُم الجُنود المجهولون، مع حفظ الألقاب لضيق المساحة : الإشراف العام : «علي حسن الشاطر»، التحرير : «علي بن علي صبرة»، و«عبَّاس علي الديلمي»، التحقيق وضبط اللُّغة : «عبداللَّه حُسين البار»، و«عبداللَّه طاهر الحُذيفي»، التراجم والمُراجعة : «آسيا أحمد العبيدي»، و«كوكب مُحمَّد الشريف»، أمانة هيئة التحرير : «يحيى عبداللَّه بن عبداللَّه»، «سعيد مُحمَّد الفقيه»، «أحمد مُحمَّد درَّاج»، الهيئة الاستشارية : «أحمد بن غوذل»، «علي أحمد أبو الرجال»، «علي أحمد الأسدي»، «حسن أحمد اللَّوزي»، «عبدالمجيد عبداللَّه بن عبداللَّه»، فيديو ومكتبات : «فيصل أحمد النظاري»، «رياض علي العريقي»، «فاطمة علي الشرفي»، الصفّ الضوئي : «علي مُحمَّد الفقيه»، «زهراء عبداللَّه الأهدل»، «أمة الملك مُحمَّد حمزة»، «هناء عبداللَّه المطري»، «مُنى علي عبداللَّه العوَّامي»، «فاطمة أحمد الدومري»، رسم الشخصيات : «يحيى عبداللَّه الحنبصي»، التصميم والإخراج : «أمين عبداللَّه منصور»، «خالد صالح زايد»، «نُعمان قائد الأحلسي».
شُكراً لهذه الكوكبة المُتألِّقة من أبناء شعبنا.