الهوى يُؤنسن المُدن التي تتجهَّم الغرباء، هُو البلسم الشافي لمساحات الضياع التي تقبض الرُّوح قبض صقرٍ يتنزَّل من عليائه مُنقضَّاً كالصاعقة على عُنق قطاةٍ لم يخطر الموت لها في بال، هكذا هُو الضّباب في لندن، وهكذا هُم الناس يتدافعون لا تدري من أين ولا إلى أين.
المعنى مُغيَّب، وكُلُّ صُور الجمال وأقانيمه في الهايدبارك ومراكز التسوُّق الباذخة، كذلك القصر العظيم الأُبَّهة «هارودز»، الذي تلبَّسته ظُلماتٌ غير مرئيةٍ عقب الرحيل المأساوي لـ «دُودي الفايد»، ابن مالك المتجر، والأميرة «ديانا»، التي لا تغيب عن وضاءتها الشُّموس، وتتنزَّل إلى أحضانها الأقمار، وتلمع في سيرة حياتها وأساريرها النُّجوم.
في لندن الكئيبة الرحيبة، العامرة الجديبة، المُتواضعة المهيبة، جاءني الخلاص من رُوحٍ هائمةٍ على البُعد، عشقتُها على الحُرَقْ وعشقتني على الْوَرَق، وللناس فيما يعشقون مذاهب، أخذتُ بطاقةً أنيقةً على أحد وجهيها صُورةٌ لوجه فتاةٍ ملائكيةٍ نائمةٍ على متكئٍ ناعم المخمل وردي، كالأطفال تكسوها غلالةٌ ورديةٌ من الحرير الناعم الشفَّاف، وَشَعْرُهَا ينسدل يميناً وشمالاً لوحةً شقراء فاتنةً ذكَّرتني بالأُغنية السُّودانية التي فجَّرت أخيلتنا في زمن الهوى والصبابة المشبوب :
«سال من شَعْرِهَا الذهبْ
وتدلَّى فما انسكبْ
كُلَّما عَبَثَتْ به
نِسْمَةٌ ماج واضطربْ».
فتحتُ البطاقة البيضاء من الداخل، وكتبتُ إلى البعيدة القريبة وأنا في حالٍ بين الصحو والمنام وبين الانتشاء والهيام :
«الرشفة الأُولى لِمَنْ أُحبْ
فليفرح الكأس ويزدهي الحَبَبْ
ويرقص العُشَّاق في لذاذات اللَّهبْ
ولتنحني هذي الدُّمى في الحانِ كاللُّعبْ.
أنا الغريق فيكِ يا فاتنتي … يا منجم الذهبْ
يا زهوة الألماس في تاج الملوك المُغتصبْ
يا رحبةً كالبحر في حاليه سمحاً أو غضبْ.
يا بهجة الصباح والمساء…
يا غضَّةً بهيَّةً يا كرمةَ العنبْ.
لو كُنتِ يا نوَّارتي معي في لندن العجبْ
كُنَّا اعتنقنا طائرين رفرفا على أراجيح السُّحبْ
كُنَّا اعتصرنا اللَّيل مُوسيقى وأضواءً
ورتَّلنا مع الأمطار أشواق الزمان المُغتربْ
يا لندن الأُولى، ولندن الأُخرى، ولندني
عيناكِ عالمي وراياتي وأشعاري وأحلى مُدني
عيناكِ مرفأي وطائراتي ورحيلي الأزلي
عيناكِ لا أبهى، ولا أحلى، ولا أغلى
ما كان لي زمانٌ قبل أن يكونا زمني».
حكايةٌ من لندن في بطاقةٍ منسيَّةٍ أنا مُتأكِّدٌ أنَّني بعثتها في البريد، فكيف عادت إلى أوراقي؟ مَنْ ذا يُجيب على أسئلتي بعد أن تلاشى العُمر بَدَدَا، وعلى رأي «سعيد عقل» : «آهٍ ما أطيبه بَدَدَا»، عنونتُ النصّ ببيتٍ من شِعْر الصُّوفية يقول :
«وجهكِ المأمول حُجَّتُنا
يوم يأتي الناس بالحُججِ»
أوغل اللَّيل عميقاً يا قنديل الدُّنيا، آن أن تتلألأ دُموع العشق على وجنات العُشَّاق قبل أن يأوي طائر الحُبّ إلى مهاده، لا أدري كيف أصف لكِ هذه المدينة الكونية وعوالمها السحرية، لقد أثقلتني وأبهضتني قبل أن يشتعل الفرح ويُضيء مرايا الذاكرة، قبل ساعةٍ اقتحمتني امرأةٌ عربيةٌ من فصيلة «مركب الهند أبو دقلين»، يا ليتني كُنتُ رُبَّانه، اندفعتْ نحوي، فهي تقول : «أين رأيتكَ من قبل؟ وعلى كُلِّ حالٍ فقد جابك اللَّه»، قُلتُ : «ألا يا مرحبا بش وباهلش وبالجمل ذي رحل بش»، قالت : «إمَّا أن تعزم عليَّ في غير هذا المكان، أو أعزم عليكَ»، قُلتُ لها : «غالي والطلب رخيص، لكن كما ترين، فإنَّ معي صديقاً ولدينا موضوعٌ هامّ»، قالت : «شُكراً»، وذهبتْ غير آسفةٍ وهي ترفل في الحُلي والحُلل، فجأةً أخذ صديقي يُحدِّثني عن انهيار حُبٍّ قديمٍ لم يُفارق أحلامه، كان الألم يتقطَّر من فمه كأنَّ الطعنة حدثت اللَّحظة، لم أستطع مُواساته، لأنَّه غير قابلٍ للمُواساة، فتركته ينزف لعلَّ في ذلك شفاءه، فَمِنَ الحُبّ ما قتل، وَمِنَ القتل ما هُو رحمةٌ وشفاء.. إلى اللقاء في أوراق منسية قادمة.