وُتَقِّدرون فتضحك الأقدارُ

يوشك العالم العربي الضرير أن يدخل مرحلة جديدة يرى فيها بعض الضوء ومعه بعض الأمل، ومع أن المراهنة على العميان الذين لم يألفوا الأنوار وقد يفرون منها إلى عماهم القديم الذي اعتادوه وأدمنوه، لا تبدو مأمونة العواقب ولا مضمونة، إلا أن المؤشرات تحتم على القارئين إعادة النظر في المسلمات التي ألفوها فلكل صلاة آذان ولكل ثمرة أوان، والتاريخ ليس صناعة بشرية مطلقة وإن توهم الواهمون وإنما هو نتاج مركب لأفعال البشر وفعائلهم وصراعاتهم المعلنة والمستترة ملونة بالزمان والمكان وما حملته الرياح من الحقب السابقة، لذلك فإن من السذاجة وربما البجاحة الإدعاء بالسيطرة على المصائر التاريخية، وقُصارى الملهمين استشعار اتجاهات الحركة والتوافق مع قوانينها المصرّح بها لأن السّير ضدّ التيار هو الوصفة المثلى للفشل: كناطح صخرةً يوماً ليُوهنها فلم يضرها وأوهى قرنَهُ الوعل من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب العربيين حالات استعصاء تقول لنا بلسان الحال “معناي ليس لكم عقول” ومع ذلك فنحن كشعوب وكرعايا وكبقايا أمةٍ سادت ثم بادت نصطبر ونحتسب صبرنا لوجه مستقبل لا نراه وإنما هو كالعمى نتحسس مكوناته فلا ندري إن كان ما وقع في أيدينا حبل أم ثعبان، ثم نتأسى حين نتجرع السم قائلين: ومن لم يمُت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحدُ على كل حال، لنتلمس بعض نفحات الضوء التي قد تأتي من حيث لا نتوقع ففي العراق الذي أهلنا عليه التراب يأساً وغضبا وقلة حيلة يبزغ فجر جديد تترقرق أضواؤه وتتدفق مياهه كدجلة والفرات فثمة ممارسة ديمقراطية معتملة وتتجاوز كل ما عرفه العالم العربي، وثمة يقظة قومية مباركة لم تعد مأخوذة أو مسحورة مبهورة بركام التاريخ الطائفي، وهذا قطع أو أنه يوشك أن يقطع أيادي كثيرة كانت تقدم الزاد والعتاد والزناد لكل ما يمزق وحدة العراق، وقد أدرك الجميع الآن أن التكلفة ستكون باهظة وأن ما يُحاك للعراق سينتقل – طال الزمن أم قصر- إلى مصدّريه، ذلك أن من يرمي بيوت جيرانه بالحجارة وبيته من زجاج ستعود إليه الحجارة نفسها “وما شي حَنَق لا حد بكى من كل عين” هناك أيضاً حراك عربي خارج إطار المناورات بعد أن أدركت الثيران البيضاء أنها ستؤكل بعد السوداء وستبكي العظام من بعضها وعلى بعضها، لأن العقول لم تكن في مستوى التحديات: كٌلاً يبي يجزع العوجا على الثاني وكلكم تحت هج اعوج تجرونه نعم بدأت بوادر وحدة صف بين مصر والسعودية وسوريا، وهذا من حسن الطالع على أبواب القمة العربية القادمة في الدوحة، وهذه البوادر دليل على استعادة النظام العربي لقراره الذي كان مُرتهناً في يد غيره، كما أن خطوات المصالحة الفلسطينية التي ترعاها مصر بحزم قد جعلت المنظمات تفكر فيما يفيد شعبها وما يضره ولن تختلف بعد الآن على جلد الدب الذي لم نصطده بعد، وإلا كنا كمثل أولئك الذين يشترون السمك وهو في ماء البحر لا يدري أحد كميته ولا نوعه ولا كيفية اصطياده. هناك الآن محكمتان دوليتان نُصبتا في وقت متزامن للبنان والسودان، في لبنان مع وضوح الجريمة ساد الصمت والترقب ربنا يستر من المفاجآت، أما في السودان فهناك غبارٌ كثيف لأن الأمر يخص رئيس دولة على رأس عمله وهو أمر غير مسبوق، ولكن وكما يبدو فإن الضغوط العربية والإفريقية وموقف روسيا والصين في مجلس الأمن سيكون لها أثرٌ في انحسار الأزمة إذا ما اتجه السودان جدياً إلى حل مشكلة دارفور التي أرقت العالمين، ومع ذلك نستنفح من كتاب الله بعض النفحات “وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم” ألم نقل أن التاريخ ليس صناعة بشرية مطلقة “وتقدّرون فتضحك الأقدار”.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s