العمل الصالح يبقى، ينفع الناس ويمكث في الأرض يشهد للعاملين، ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره. مرت بي أمس الأول لحظات منعشة من السعادة والغبطة والاعتزاز وأنا أتابع افتتاح مروي في السودان الشقيق، كان حلماً فأصبح حقيقة، وسيتوج النيل بمنشأة عملاقة من صنع الإنسان، تضاهي السد العالي في مصر، والذي حما الكنانة من الفيضانات ومن الجفاف، وزودها بطاقة ضخمة من الكهرباء، ليت العرب يكفّون قليلاً عن الطنين والجعجعة والعنتريات التي ما قتلت ذبابة، ويتجهون إلى العمل الدؤوب والإنجاز والتفكير المتوازن في إصلاح شؤون شعوبهم وتجنيبها الخلاقات والعداوات والحروب والتدخلات الدولية، ذلك أن الشرور إذا استشرت تسمم النفوس، وتقود إلى تجاوزات تؤذي الضمير العام، وتتجاوز الخطوط الحمراء التي تنظم الخلاف والحوار، وهو حق مشروع، ولكن الإنتقام والإخضاع والقهر والقتل ليس من الحقوق الإنسانية داخل الشعب الواحد المتساكن. ولم يكن السودان في معظم تاريخه الحديث سوى ذلك البلد الآمن، والشعب الوديع، والأرواح الجميلة المحلقة، ومنه ومن بين أبنائه عرف العالم العربي النجوم الذين يشار إليهم بالبنان أدباء وعلماء وتعليماً ورسالات محبة، ولم أصادف في حاتي أحداً ممن عاشوا في ذلك البلد المترامي إلا وهو يكن لأهله صادق الود وجميل الذكريات وعظيم الشغف والشوق، وهذا التوهج والحضور هو من النعم العظيمة التي قد يتناساها الساسة، فيجنحون إلى ما يخالفها، وهم بذلك يقتلون أفضل وأجمل ما في نفوسهم، ومع ذلك يظل الأمل في عمدة العقل، وأن تهدأ النفوس الغاضبة المتوخزة، فتعود الحياة إلى مجاريها الطبيعية، ويعش الناس إخواناً متحابين، فالسودان العزيز قارة واسعة، شاسعة، غزيرة الخيرات، وفيرة المياه، خصيبة التربة، متعددة الثقافات، تتسع لأهلها وتغمرهم بالخير مهما تكاثروا، وتفيض على جيرانها الأقربين والأبعدين، لذلك يحز في النفس أن نرى أهل السودان مهاجرين يبحثون عن لقمة العيش في مضاف بعيدة، ويحرم بلدهم من خيراتهم وجهودهم، فلا يعودون إليه إلا كما عاد مصطفى سعيد بطل رواية الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) حطاماً نفسياً. السودان سلة العرب الغذائية، كما اعتدنا أن نردد بحق، ولكن هذه السلة لن تعمل بـ (الريموت كونترول)، وإنما تحتاج إلى تفعيل وتمويل وعمل على الأرض، وهذه في رأيي القيم التي يذكرنا بها (سد مروي) الذي ستستفيد منه أجيال وأجيال، فهو عمار للأرض التي أمرنا الله تعالى بإعمارها، وهل أجمل من أرض تخضر بعد بوار، ومن ماء يترقرق بعد ضياع، ومن بشر يكدون على الأرض فيكسبون أرزاقهم بعرق جبينهم، إنه صورة مناقضة لقعقعة السلاح، ومناقضة الحاية للموت، وشتان بين معمر ومخرب، السد أنجزته أياد صناع، وعقول لامعة، وتعاون شبه دولي، حيث ساهمت دولة الإمارات العربية المتحدة بمبلغ 367 مليون دولار من أصل 850 مليون دولار قدمتها الصناديق العربية الأخرى، وقدمت الصين الشعبية ما مجموعه 520 مليون دولار، وتحملت الحكومة السوادنية ما مجموعه 575 مليون دولار، وهكذا:
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً=وإذا افترقن تكسّرت آحادا
لا أنسى هنا أو حتى لا أنسى تقديم الشكر الواجب للإمارت والصين، لا لأنهما موّلا وأقرضا، ولكن لأنهما عفا عن المن والاستخدام الدعائي، أما وقد أنجز السد ودخل حيز العمل، فمن حقهما أن يحصلا على ما يستحقانه، فمن لا يشكر الخلق لا يشكر الحق. السد العظيم سينتج 1250 كيلو وات من الكهرباء، ويضاعف رقعة الأرض الزراعية، ويحصّن خطوط الملاحة البحرية، كما سيوفر بحيرة لتخزين المياه بطول 176 كيلو متراً، وهكذا هكذا وإلا فلا لا، ولا ينبغي للويس مورينو وكامبو ومحكمته الجنائية أن يفسدا علينا الفرحة {أما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}. صدق الله العظيم.