من يستطيع التخمين أين يعيش؟ وماذا يفعل خلال نهاره وليله وموته البطيء في شدق النسيان الزعيم الأثيوبي السابق منجيستو هيلي مريام؟ الذي كان ذات يوم ملء سمع الدنيا وبصرها، يردد مع أبي الطيب:
أي محل أرتقي=أي عظيم أتقي
وكل ما خلق الله= وما لم يخلق
محتقر في همتي=كشعرة في مفرقي
فص ملح وذاب، ومثله أطنان وأطنان من الأملاح التي يرزح العالم وترزح الشعوب تحت ثقلها بانتظار مطر موات يصرفها إلى أجاج المحيط. ما الذي ذكرني بهذا الرجل الذي هبّ على بلاده كالعاصفة الهوجاء، ثم أُجليَ عنها كالفأر بعد أن تركها قاعاً صفصفاً لا زرع ولا ضرع ولا أيديولوجيا ولا ثقافة ولا قيافة، على طريقة بول بوت في كمبوديا، والملا محمد عمر في أفغانستان، وصدام حسين في العراق، وعيدي أمين في أوغندا، وروبرت موجابي في زيمبابوي، البلد الذي أهينت فيه العملة الوطنية كما لم تهن في أي بلدٍ آخر بأرجاء المعمورة، ولدرجة أنك لو حملت شاحنتين بدولارات موجابي لن تستطيع بحمولتهما شراء رغيف خبز واحد، ورغم ذلك فالرجل “المناضل” متمسّك بمناصبه، ومصر على أنه السم النقيع في حلوق الإمبرياليين، والدواء الثاني لأبناء شعبه الذين تحصدهم الكوليرا حصد الـ “بيف باف” للذباب.
وحين يحين حسابه مع التاريخ – الذي قد يمهل ولكنه لا يهمل – فستجده مركوناً في زاوية مظلمة من مدينة منتنة، يبكي على اللبن المسكوب، وما اجترحه في الأيام الخالية: {فإذا برق البصر * وخسف القمر * وجُمع الشمس والقمر * يقول الإنسان يومئذ أين المفر * كلا لا وزر * إلى ربك يومئذ المستقر} صدق الله العظيم.
ودوعنا نستمع إلى جانب من الدراما الدموية من المواطنة (هيروت إبيبي جيري) التي كانت آنذاك في سن المراهقة، وليست العير ولا النفير في عالم السياسة الموبوء، ولكنها وجدت نفسها وشقيقتها الصغرى بعد الخطاب الناري بقليل تختطفان من قبل الشرطة بملابس النوم، وفي سجن الشرطة – كما تروي – جرّدوها من ملابسها، وعلقوها من قدميها في السقف، ثم كمموا فمها بجورب منقوع في القيء، وعذبوها طوال الليل.
السبب الذي أوردها إلى هذا المصير المخيف هو أن صبياً عمره 11 عاماً كان يعيش في الشارع الذي تعيش فيه (هيروت)، وكان معلقاً هو الآخر من قدميه وينزف دماً بغزارة، قال للشرطة وهو تحت التعذيب أنه حاز مسدساً أعطاه فيما بعد لها، واليوم بعد أكثر من ثلاثين عاماً تؤكد (هيروت) أنها لا تدري أي شيء عن ذلك المسدس المزعوم.
فلنفترض جدلاً أنه كان هناك مسدس في يد طفل، وأنه أعطاه لمراهقة لا تدري ماذا تفعل به في عالم المجانين، أفمثل هذا الأمر يهدد نظاماً ثورياً شديد البأس مما يجيز له تعذبيب الأطفال والإعتداء على إنسانيتهم بمثل تلك الوحشية، طبعاً القصة ليست سوى قمة جبل الجليد، وقد كانت الفتاة محظوظة عندما أطلق سراحها بعد شهرين بقرار من مسؤول قدر أ،ها لا يمكن أن تتحمل المزيد من التعذيب، وعقب ذلك مشت (هيروت) على قدميها إلى إرتيريا المجاورة حيث حصلت على لجوء في كندا، وصرف لها جواز وفقاً للقانون الكندي.
ولكن هل اكتملت القصة فصولاً بهذه النهاية شبه السعيدة؟ لا أبداً… فبعد 13 عاماً تعرفت الفتاة الضحية على الرجل الذي عذبها خلال حملات التطهير التي أطلق عليها مسمى (الرعب الأحمر)، واسمه (كيلبيسيا نيجيو) في ردهة فندق بأتلانتا في أمريكا، وكانت قد علمت بوجوده من صديقة لها كانت تعمل نادلة في الفندق نفسه، وقد تعرضت هي الأخرى أيضاً للتعذيب على يديه، ثم انضمت إلى الاثنتين ضحية ثالثة، وهكذا بدأن معركة لا هوادة فيها معه، ولكن عبر القضاء، وقد صدر الحكم عليه بالسجن مدى الحياة في أثيوبيا بتهمة الإبادة الجماعية، وقد علقت (هيروت) بعد صدور الحكم – وعيناها مغرورقتان بالدموع-: “النسيان مستحيل، لكنني لن أفكر فيه كل يوم بعد الآن”.
يا ترى كم من البشر تعرضوا لمثل ما تعرضت له (هيروت) وصديقتاها دون أن تأخذ العدالة بحقهم؟ وحتى لا يتعرّض آخرون لمثل ما تعرضوا له {ولكم في الحياة قصاص يا أولي الألباب}. صدق الله العظيم.