حتى لا نكون كحاطب ليل..

بقدر يسير من التأمل غير المنفعل من قبيل ذلك الذي يجعل شجرة في الواجهة تحجب الغابة الكثيفة حيث تتوالد عوامل الحياة وتتدفق نستطيع أن نرصد بشائر واعدة في هذا الليل العربي المطبق إعمالاً لمبدأ ولادة النقيض من رحم نقيضه، وأهمية الإدراك هنا ليس الفرجة على تجليات التاريخ وتحويله لمجراه كأي نهر عظيم مقدماً الفرص لأراضٍ جديدة لتنال نصيبها من النماء والاخضرار والإثمار إن أحسن أهلوها الاستفادة أما إن أساءوا فسيتحول الماء العذب إلى مستنقعات مولدة للحشرات الضارة التي تنقل الأمراض وتهدد الحياة وتكون عوامل طرد للبشر بدلاً من عوامل الجذب التي تم تجاهلها عند الإقبال وسيتجرع الناس مراراتها عند الإدبار، التاريخ يعمل بمعزل عن البشر فله منطقه الخاص في النشوء والارتقاء وفي الأفول فالانطفاء، وأنت تريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد، ونشهد منذ ربع قرن تقريباً تحولات بعضها مزلزل كما في تفكك الإمبراطورية السوفيتية وبعضها الآخر ذو نفس مستقبلي مديد كما في بزوغ شمس الصين اقتصادياً وبجانبها الجار الهندي الكبير الذي يزاحم بمنكبيه عاقداً العزم الأكيد على أن يكون الثاني طالما لم يتمكن من أن يكون الأول، وإلى جانب هذين النجمين كوكبة دوارة من نمور آسيا الشمالية وجنوبها الشرقي تؤسس جميعاً لانتقال مركز الحضارة من الغرب إلى الشرق بزخم داخلي غلاب يشبه تدفق الأمواج في البحار، حيث يتوافق السباحون الماهرون مع حركتها دون أن يكونوا مبدعيها ولكنهم هم من يمنحونها رونق الجمال حين يعلون أثباجها فيصبحون جزءاً من أوركسترا المحيط حامل الحضارات ومجدد العقول وغاسل الأرواح التي ران عليها الصدأ في دورة الفلك وتعاقب الليل والنهار، ومن التحولات في غرب الباسيفيك وغرب أوروبا اضمحلال الامبراطوريات الاستعمارية وتآكل بقايا آثارها وولوجها عالم النسيان في أذهان الأجيال الجديدة التي لا تتطلع إلى ما وراء البحار كما كان أسلافها الذين تقاسموا الكوكب قبل أن ينكمشوا إلى ديارهم الأصلية منتظرين الموجات الارتدادية لزلازل الدهر، وقد ترافقت تلك التحولات المؤلمة مع تشقق في البنى الاقتصادية وانهيارات في المنظومات المالية وولادات قيصيرية لحلول مؤقتة إضافة إلى تيبُّس البنية الاجتماعية وتهاوٍ للنظريات التي استنقدت طاقاتها فعجزت عن تحمل تكاليف الحياة فسئمت مثل الشاعر لبيد:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم

وتبدو الولايات المتحدة الأمريكية النموذج اللافت للسير القهقرى رغم ضخامة البنية وصولة القوة وطغيان المهابة، ولكن كل ذلك لا يستطيع التغطية على مظاهر الكبر والتقدم في السن التي تنخر المجتمع في أضعف حلقاته الإنسانية وتجلى في ركاكة اقتصادية تتكشف أبعادها في سوق المنافسة الدولية، فأمريكا التي كانت تحوز حوالي خمسين بالمائة من الانتاج العالمي إبان الحرب العالمية الثانية وفي أعقابها لم تعد اليوم تحوز سوى 25 بالمائة وهناك من يلاحقها بلا هوادة ليقضم ما استطاع من هذه الكعكة المشهية، إضافة إلى أن تكاليف إدامة القوة والتهديد بها واستخدامها قد ارتفعت كثيراً حتى أغرقت واشنطن في الديون التي تمثل رصاصة الرحمة في نعوش الامبراطوريات التي يغريها التمدد حتى تتخلع مفاصلها فتعجز عن العودة ولو إلى وضعها السابق وتلك من سنن الله التي لن تجد لها تبديلا.

ما علينا ما الجديد في عالم العرب الذي يتخبط في الحضيض كمن به مس أو صرع، الجديد كما أرى يتمثل في يقظة فرضت نفسها بعد أن بلغ السيل الزبى، وهزل الكبار قبل الصغار شأن تلك الناقة التي وصفها شاعر عربي بقوله:

لقد هزلت حتى بدا من هزالها

كلاها وحتى سامها كل مفلس

واجتماع وزراء خارجية 9 دول عربية بينها اليمن في أبو ظبي مؤشر مهم في هذه الاتجاه ولا يهم ما يقال عن المحاور، ولتكن إذا كانت هناك إرادات فاعلة وأهداف واضحة وتعاضد أبعد من الكلمات ذلك أن الجميع في مركب واحد وينبغي عدم السماح لأي غريب لا يبالي إن غرق المركب طالما سينال بعض الأسلاب بتنفيذ فعلته، وإن استعان ببعض من أهل الدار الموتورين، ولا بد أن يكون واضحاً أن الاستجابة العربية للتحديات المدلهمة لابد أن تؤطر في رؤية حضارية ونمو علمي ومكافحة لا هوادة فيها للإرهاب والفقر والجهل وعلاقات متوازنة مع العالم تقدم على المصلحة المتبادلة، وبدون مثل هذه الرؤية الشاملة سنكون مثل حاطب الليل لا يدري إن كان في جرابه حبل أم ثعبان.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s