يمثل النمو الحضري وتوسّع العواصموالمدن الكبرى سكانياً وعمرانياً واقتصادياً وما يتصل بكل ذلك من بنى أساسية ومشاريع طاقة وخدمات واختناقات مرورية وتلوث مناخي وآثار صحية ونفسية وأخلاقية لتفاعل مختلف العوامل وتأثير بعضها على بعض، يمثّل ميدان دراسة وبحث واستقصاء لإيجادضوابط قانونية للنمو الذي يتداخل فيه الريف مع المدينة، حيث الأحياء العشوائية تختنق وتخنق محيطها، وتأتي على الأرضي الزراعية التي هي بمثابة الرئات الحيوية للمدن، كما تؤدي إلى ترييف المدين سلوكياً وقيمياً، وإلى نمو سرطاني للجريمة المُنظمة والمهن الطفيلية والإتجار بالبشر، خاصة الأطفال والنساء المغلوبات على أمورهن، هذه التحديات إذا لم يتم تدارسها وتداركها وقوننتها تقود إلى عواقب وخيمة، وتخرج عن السيطرة بعد أن تضرب جذورها عميقاً في الأ{ض، فيتعذر إصلاحها على الحكومات والسلطا المحلية التي تركت الحبل على الغارب واتخذت من سياسات “لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم” منهاجاً لا عقلانياً غاية في السلبية، حتى وإن بدت متشاغلة دون إنجازات جوهرية.
في الماضي غير البعيد كانت المدن المسوّرة فعلياً أو بحكم موارد العيش المتاحة تصحح أوضاعها تلقائياً، حيث يجري بتر الزوائد الضارة أو استيعابها بأريحية، وأتذكر أنني جئت صنعاء القديمة عام 1963 وهي ما زالت داخل سورها، كأنها لؤلؤة مشعة في وادٍ خصيب، سكانها متجانسون، وأوقات معاشها ومنامها مضبوطة، وأرزاقها من الموارد الطبيعية تفي باحاجات وتفيض، ثم جاء السيل العم ومعه أحجار البناء وقضم الأرضاي والنمو العشوائي الذي لا يعرف حدوداً ولا قيوداً، وبدا الأمر للوهلات الأولى كأنه التجسيد الحي للحق الطبعيي للمواطنين في وطنهم وفي سكنى عاصمتهم، وفعلاً كانت بانوراما المدينة بهجية في إطار التوسّع المرن المتوازي والمتوازن إلى حين، ثم حصل الإنفجار السكاني المريع (البنج بانج) الذي سحب معه مياه الحوض من مكامنها البعيدة للإستخدامات الضرورية وغير الضرورية، وأعاد إليها المياه العادمة عبر بيارات المجاري، ليختلط الحابل بالنابل، والصحة بالمرض، والأنسام الطبيعية الشحيحة بعواصف التلوث العاتية، وربما لا يستشعر المقيمون فداحة ما يمرّ بهم، بحكم الإعتياد وبحكم طاقات الإنسان على التكيّف، لكن القادم من خارج المدينة يرى وجه الناس تعلوها غبرة ترهقها قترة، وقد امتصّ التلوث نسغ الحيوية في محاييهم، وشدّ جملهم العصبية كأنهم أسلاك كهرباء بلا عوازل إذا ما مسّها أحدٌ أصلته ناراً وشراراً.
كل ذلك من منغّصات العيش السوي، التي تجعل الحياة في رأس جبل لا يبلغه الضجيج ولا يطاله العجيج، منية المتمنّي، وهناءة المتهنّي، لكأن (الصوفيّ) الذي قال في مُعتزله: “لو عرف الملوك ما نحن فيه من سعادة لقاتلونا عليها بالسيوف”، كان يقصد ضمن مقاصده هجران المدن التي ضربها التلوث من كل صنف ولون، وفأوشكت أن تحلّ عليها لعنة “سادوم وعمّورة”.
على كل حال، يبدو أنني أوغلت في المبتدأ ونسيت الخبر، وهو بدء أعمال القمة العالمية لعواصم المستقبل أمس، وذلك في مدينة (أبوظبي) عاصمة الإمارات العربية المتحدة، والتي يُشارك فيها خبراء من نحو (50) دولة، متخصصون في مجالات الإقتصاد والتطوير العقاري والتكنولوجيا والتعليم والبيئة، وهذه التخصصات – كما ترون – متآزرة ومتعاضدة ومتداخلة في نسيج المدن الكبرى التي تتبادل خبراتها وتعرض نجاعة حلولها للتحديات المتنوعة، وقد اتخذت القمة مدينة (أبوظي) كنموذج ومثال لعاصمة مستقلية في القرن الحادي والعشرين، وهي تستأهل ذلك، ليس لكونها مصنفة كأغنى مدينة في العالم، ولكن لدقة مراقبتها لنفسها.
(أبوظبي) عاصمة حديثة، بنت نفسها في جزيرة على شاطئ الخليج العربي، لكنها أخذت في الإتصاع، قافزة إلى محيطها البري وجزرها البحرية المتعددة غير الجزيرة الأم، وسرعان ما أخذت المدينة تعاني من النمو المُتسارع للعمران والسكان، الذين يتنافسون مع مليون سيارة سدت كل الآفاق، ولم يكن هناك من حلول تقليدية، لذلك تشهد (أبوظبي) انقلاباً شاملاً في التخطيط والتنفيذ والإستبدال والإحلال وبناء الأنفاق والجسور وتوسيع الطرق، إضافة إلى عشرات الضواحي التي تتوسع كل يوم وتستهلك الكثير من الخدمات والبُنى… عقبى لنا والضغط علينا أقل بالقياس.