
رحل عن دنيانا أمس الأول محمود أمين العالم، أحد أبرز أعمدة الثقافة العربية الجادة عن عمر ناهز السادسة والثمانين. كان نموذجا للكاتب الملتزم ذي الثقافة الموسوعية والنظرة التقدمية والمجاهدة والمكابدة لأداء رسالة الكلمة، ودفع ثمن ذلك في مختلف مراحل التجربة المصرية منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي وحتى نهاية القرن فصلاً وسجناً ونفياً، كما عرف لمعان النجومية مفكرا مرموقا يشار إليه بالبنان، وسياسيا في الصف الأول سواء في الحزب الشيوعي المصري أو بعد ذلك ضمن التنظيم الطليعي الذي أنشأه جمال عبدالناصر داخل الاتحاد الاشتراكي الفضفاض فيما عرف بتحالف قوى الشعب العاملة والذي كان بحاجة إلى نواة صلبة لم تلبث أن تحطمت عقب الرحيل المفاجئ لعبدالناصر وتولى السادات السلطة والذي نهج نهجا مغايرا وصل به إلى أقصاه عقب حرب 1973م, وكان العالم واحدا من أشهروا معارضتهم بالاتجاهات الجديدة وقد تم اعتقاله ضمن المجاميع الذين أطلق عليهم العهد مسمى “مراكز القوى” ووجهت إليه تهمة الخيانة العظمى مع بقية زملائه قبل أن يفرج عنهم، وتلك كانت إحدى مهازل التاريخ التي تذكرنا بما ينسب إلى قراقوش حاكم مصر الفاطمي، كما كانت “نكتة سوداء” توجيه تهمة الخيانة العظمى إلى أبرز مفكري مصر وسياسييها وكتابها وبالجملة، بمبررات واهية لا تقف على ساقين بل أنها لا أساس لها إلا في أوهام الانفراد بالحكم واحتقار الشعوب والنخب والرأي الآخر. ولذلك كان صاحب هذه السياسة يفخر بلقب “آخر الفراعنة” الذين حكموا مصر أو “كبير القرية” حين يراد إعطاء مسحة شعبية للزعيم. متعة أن تقرأ محمود أمين العالم: العقل الراجح والتحليل المتماسك والنظرة البانورامية من زوايا متعددة، ثم وهذا هو الأهم في القيمة الفكرية الإخلاص العميق للمعتقد، والوضوح والإبانة التي لا تتخفى وراء غموض مصطنع، أو لعب على خيارات مختلفة وربما متناقضة، وقد تزود محمود من عمله في الصحافة السعي الحثيث لإيصال الفكرة إلى أكبر عدد من الناس، ورغم أن خلفيته فلسفية بامتياز، ليس بالقراءة وحدها وإنما بالدراسة والتدريس الأكاديمي حيث تنقل بين جامعتي أكسفورد وباريس, ودرّس في الأخيرة للفترة منذ عام 1973م حتى 1984م. وقد أنشأ خلال هذه الفترة مع عدد من الماركسيين المصريين مجلة شهرية هي “اليسار العربي” للدفاع عن الوحدة العربية والديمقراطية والتحرر السياسي والاقتصادي. كما شارك في الجبهة الوطنية المصرية المناهضة للسادات عندما بدأ مشروعه للصلح مع إسرائيل مما أدى إلى أن يقدم غيابيا لمحكمة “العيب” ويحكم عليه بحرمانه من حقوقه المدنية والسياسية وأن يقدم إلى المحاكمة حال عودته إلى مصر، ومن ثم جرى وضعه هو وأسرته تحت الحراسة.. وما أدراك ما الحراسة، حيث قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق، وحيث المجتمع المرتعب من السلطة وأدوات قمعها يتبرأ من “المحروس” كأن به جرب. توسم الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي ذي النظرة الثاقبة في محمود العالم النجابة والحنكة والمقدرة على هضم الفلسفة والايدلوجيات وإعادة إنتاجها وذلك منذ وقت مبكر، وكان محمود قد حاز شهرة واسعة في أوساط المثقفين حين رد بالاشتراك مع الدكتور عبدالعظيم أنيس على مقال للدكتور طه حسين نشره بجريدة “الجمهورية” القاهرية حول مفهوم الأدب، وقد وضح في الرد البليغ الإبداع التطبيقي للمنهج الماركسي في فترة بزوغه تحت الرايات الاشتراكية الوطنية، وعقب ذلك ظلت مكانته تتصاعد في أوساط مثقفي اليسار ليس في مصر فحسب وإنما على امتداد الوطن العربي، يتميز العالم بسعة الصدر في الاختلاف واعتماد الحوار الناعم دون الايغال في العداء والاستعداء الذي يناقض جوهر التفكير الحر، ولذلك كان موضح تقدير عظيم في مختلف الأوساط بابتسامته الساحرة وأدبه الجم وعلمه الغزير غير القابل للتباهي أو القول بالمتناهي أو الاعتقاد بحتميات تقاس بالمسطرة كما تعودنا من اليسار المراهق، ولذلك قال عنه محمد سلماوي ــ رئيس اتحاد كتاب مصر ــ “إنه نجح في إعطاء اليسار وجها إنسانيا ونزع عنه ما اصطبغ به طوال عقود من جمود وتطرف, وقد خرج بفكر اليسار إلى عالم أكثر رحابة”.. رحم الله محمود أمين العالم الذي ترك فراغا من الصعب ملؤه وسد ما كان يسده من إشاعة للتنوير والعقلانية.