أن تقرر السير على الأقدام من عدن إلى صنعاء أو من الحديدية إلى باب المندب أو من المكلا إلى الغيضة، وهي كلها أصقاع يمانية تتباعد في الجغرافيا بقدر ما تتقارب في النفوس والمشاعر وفرح الوصول إلى أيٍّ منها، وهذه الرحلات وأمثالها يلزمها الوقت، وهو هنا عدة المسافر يعرف به المراحل ويقدر الإنجاز ويضع فواصل للراحة والمنام والأكل والمشرب، وفي ذروة الوقت المحدد المنجز يكون الإحتفال بتحقيق الهدف ليبدأ الإنسان ومعه الحياة مسيرة أخرى عبر الوقت، لذلك فإن ما يفرق بين إنسان وإنسان ومشروع وآخر هو التعامل مع الوقت وتحويل ساعاته ودقائقه وثوانيه إلى نوابط متعاضدة لا متعارضة، فلكل هدف سقف زمني، وإلا كان الوقت أبلهاً قد يسير إلى الأمام وقد ينحرف إلى اليمين أو الشمال، بل قد يرتد على عقبيه دون أن يدري راجعاً إلى نقطة الصفر. ولكي يتم التمكن من الوقت – الذي هو أغلى ما يمتلكه الإنسان من المهد إلى اللحد – فلا بد من وجود خارطة طريق لأي مسيرة تصحح الإتجاه، وتمنع الإنحراف، وتعيد التأكيد على النقاط الجوهرية، وتذكر بالسقوف الزمنية للإنجاز، وتؤثر الموارد وديمومة رفدها للبناء والمسيرة، كما قد تتوقع المعوقات وطرق التغلب عليها ونوع الكوادر المطلوبة حتى ينتظم الوقت مضروباً في العمل (الجهد الإنساني) دون إهدار، فللنجار عمل، وللحداد عمل آخر، وللعامل غير المؤهل عمل ثالث مساعد، وللإداري ملعبه، والمحاسب خزنته، والشرطي في الشارع دوره الهام في تنظيم حركة المرور، وهكذا نجد أننا جميعاً نتخذ مواقعنا في إطارالوقت، علمنا أن لم نعلم، فالزمن المدرسي والجامعي ينسق لإنتاج ثمار المعرفة، والزمن الزراعي والصناعي والتجاري يوائم لإشباع حاجات المجتمع ومكافأة المنتجين لكي لا يحبطوا، لأنه حتى الثور في الطين إذا لم يجد ما يستحقه من العلف لقاء تعبه تمرد ونفر وتحول إلى مشكلة بدلاً من أن يكون مساعداً لحل المشاكل، وفي القلب من هذه العملية يوجد الهداة من الناس الذي ينظرون إلى لابعيد وإلى الغد، يحوزون من المعرفة ما يمكنهم من القيادة وقراءة الخرائط المعقدة واختيار أقصر الطرق وأسلمها، وهؤلاء عندما يكونون على رأس مهامهم في الزمن المحدد وتحت أيديهم الإمكانات المتاحة فإن المسيرة تنطلق ويرفد كل عمل الآخر، كما ترفد مجاري الأمطار السيول العظيمة، أما إن كان الوقت من تراب وليس من ذهب، وخرائط الطرق كلها مشوشة يسير الناس فيها على غير هدى وإلى لا هدف، والإمكانيات مستنزفة، وكل من تحت يده شيء من الأموال العامة قال: “هذا حقي ولا يجوز لأحد أن يسألني عنه”، فأبشر بالخراب، لأن معنى ذلك أن جهاز المناعة الألخاقية قد أصيب في مقتل، ويستطيع أي ميكروب صغير متسلل أن ينخر حيث يشاء وأمامه الوقت العاطل الذي استبدلنا به الوقت العامل، لذلك أرجو أن لا تنظر أيها القارئ العزيز إلى وجوه النسا ولمعانها، وإلى ملابسهم وطرزها، وإلى أيديهم التي تتأبى على العمل المنتج ولا تصلح إلا لتوقيع الشيكات، ولكن انظر إلى قلوبهم وحسن نواياهم وقدراتهم على التضحية لتعرف إلى أين نحن متجهون.