الجديد الواعد…

طالب مفوّض مكتب براءات الاختراع بالولايات المتحدة عام 1899م بإنهاء أعمال المكتب، وذلك نظراً لأن كل شيء يُمكن اختراعه قد تمّ اختراعه بالفعل، هكذا تبيّن للرجل الذي يتمتّع بالخيال المطلوب والإطلاع الكافي على القفزات المفصلية في تاريخ العلوم، ويبدو أنه كان مطمئناً إلى تقديراته، فلم يحتط لنفسه بقدر من الاستثناء أو الشّذوذ عن القاعدة الذي يستند إليه العقلاء لكي لا يقعوا في الحرج ويصبحوا مثالاً للتندّر كما هو حال صاحبنا الذي لو بُعث اليوم حياً ورأى ملايين براءات الاختراع التي تسجّل على مدار الساعة في مختلف أنحاء العالم لما صدّق عينيه، وأغلب الظن أنه سيقول إن هذا كلّه مجرّد وهم وتلبيس من فعل السحر والسحرة، شأنه في ذلك شأن أستاذ جامعة (أوكسفورد) الذي أنكر الضوء الكهربائي بوصفه حيلة أو خدعة يُقصد بها التغرير بالناس.

ويضرب (بيل جيتس) – مؤسس شركة (مايكروسوفت) العملاقة التي بناها وشريكه من الصفر ومن لا رأسمال تقريباً – هذيْنِ المثلين وغيرهما، ليقول للناس إن العلم محيط لا سواحل له ولا قرار، وأن عظمة الإنسان – الدارس والباحث والصانع – هي محاولة الإحاطة ببعض ما في هذا المحيط من أسرار، والإمساك بها، وتطويعها في خدمة الناس والحضارة، وأن لا شيء يمكنه أن يحولَ بين العلماء وبين اختراع المُعجزات بعد أن يراكموها لتُغذي بعضها بعضاً، شأن الأساس الذي تُبنى عليه مئات الطوابق إذا توصّل المُهندسون إلى الطرق الكفيلة بتحمّل هذا الثقل، وساعدهم علماء في تصميم آلات المناولة على هذه الارتفاعات الشاهقة، ثم رافقهم عُلماء آخرون ليتمكّنوا من تزويد هذه العمارة الهائلة بالماء والكهرباء والمصاعد السريعة وأعمال التكييف، لتتحوّل في الأخير عمارة واحدة إلى مدينة سكنيّة.

ويذكّرنا (جيتس) بالطاقات البشرية على التكيّف والقدرة على التعامل مع كل جديد بعد أن يرفضوه في البداية أو يشيحوا بوجوههم عنه، فالدرّاجة في البداية كانت بدعة سخيفة، والسيارات كانت بمثابة “متطفّل ضاجّ” وحاسب الجيب كان مهدِّداً لدراسة الرياضيات، والراديو نهاية لمعرفة القراءة والكتابة.

اليوم من يستطيع أن يستغني عن هذه المخترعات، أو حتى ينظر إليها بهذا القدر من السلبية، فقد أصبحت هذه المخترعات جزءاً أصيلاً من الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعمرانية، ولنأخذ – على سبيل المثال – اختراع (جوتنبرج) للمطبعة عام 1450م، والتي غيّرت وجه المعرفة، فقبل (جوتنبرج) لم يكن هناك سوى 30 ألف كتاب في القارة الأوربية بأسرها، وكلّها تقريباً عبارة عن نُسخ من الإنجيل أو شروح وتفسيرات لنصوصه، وبحلول عام 1500م أصبح هناك ما يزيد على 9 ملايين كتاب في مختلف الموضوعات.

ويؤكد (جيتس) على قانون (مور) نسبة إلى (جوردون مور) مؤسس شركة (إنتل)، والذي يُشير إلى تضاعف سعة رقاقة الكمبيوتر مرّة كل عام، وتناقص سعرها، والآن تتضاعف كل 18 شهراً، ولك أن تتخيل التراكم الهندسي الذي يذكّرنا بـ (شيرهام) ملك الهند الذي طرب وفرح لاختراع أحد وزرائه لعبة (الشطرنج) فسأله أن يُحدّد المكافأة التي يشاء، ولما كان عدد مربعات الشطرنج 64 مربعاً، فقد طلب الوزير من صاحب الجلالة أن يُعطيه حبّة قمح عن المربّع الأول، وحبتين عن الثاني، وأربع حبات عن الثالث، وهكذا يتضاعف عدد حبّات القمح في كل مربع عن الذي سبقه. وقد تأثر الملك كثيراً بتواضع الطلب، وأمر بإحضار (شوال من القمح، وطلب العدّ على مربّعات اللوحة، وبانتهاء عد حبات الثمانية مربعات في الصف الأول كان العدد 255 حبة، ولم يبد الملك عندها أي قلق، واستغرق زمن عدّ الحبات 4 دقائق فقط، وحين انتهى مسؤول التموين من عد الصف الثاني، كان قد عمل لمدة 18 ساعة عد فيها 65535 حبّة، وعند نهاية الصف الثالث كان قد استغرق 194 يوماً لعد 16.8 مليون حبة في 24 مربعاً، وكان لا يزال أمامه أربعون مربعاً، وهكذا نقض الملك وعده للوزير، لأن الوصول إلى المربع الأخير يعني وضع حبات من القمح تبلغ 18446744073709551615 حبة يستغرق عدها 584 بليون سنة، أي أكثر من عمر كوكب الأرض.

وطبقاً لأغلب الروايات لهذه الأسطورة الهادفة فقد أدرك الملك في مرحلة من العدّ أنه قد خُدع، فأمر بقطع رأس وزيره الداهية.

العبرة أن البدايات قد لا تكون شيئاً مذكوراً، لكن تنميتها ومضاعفتها والإضافة إليها تأتي بنتائج لم تكن في الحسبان، وهذا هو طريق النمو الحقيقي، ولننظر إلى ما راكمته الصين خلال عشرين عاماً من الدأب والإضافات والتحسين حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، وهي الآن خزنة العالم.

والخلاصة بالنسبة للشباب هي البدء من القليل المُتاح للوصول إلى الكثير المُباح، وأن لا يحتقروا القليل من علمٍ أو اقتصادٍ أو معرفة، لأن العدم أقل منه

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s