لا أدري كم يدرّ موسم الحج على المملكة العربية السعودية، وكم تصرف عليه، لأنه لا توجد أرقام رسمية، ولكن عديد الحجاج الذي يصل إلى حوالي المليونين من الخارج، ومليون من الداخل، يؤشر إلى عوائد ومصروفات ضخمة بالمليارات، فلو افترضنا أن الحجاج القادمين من كل فج عميق، يصرف الواحد منهم 1000 ريال سعودي، فمعنى ذلك إنفاق ملياري ريال، وهو مؤشر متواضع، لأن هناك من يصرف أضعافاً مضاعفة، كما أن مشتريات الحجاج من الهدايا والمحتاجات تنعش الأسواق العامرية في كل من مكة المكرمة وجدة والمدينة المنورة، والذي يعتبر تجارها أن موسمي العمرة في رمضان وأداء مناسك الحج في ذي الحجة هما (أم المواسم)، وغالباً ما يمتد موسم رمضان حتعى موسم الحج، فيصبحان موسماً واحداً يستغرق ثلث العام تقريباً، وفي ذلك بدون شك استجابة لدعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام {ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك المحرّم ربّنا ليقيموا الصلاة، فاجعل افئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرو}، وقد استجاب الله تعالى لدعاء خليله، وهذا من المعجزات الكبرى في حياة الإنسانية على امتداد تاريخ الإنسان، فما من مسلم إلا ويهزّه الشوق يوماً إلى الأرض المقدسة، فلا يستطيع مقاومة شد الرحال والتلبية “لبيك اللهم لبّيك، لبيك لا شريك لك لبّيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك”.
وفي المقابل فإن المملكة تصرف بلا حساب على المشاعر المقدسة، وتمتلك الأملاك الخاصة، وتشق الطرقات، وتقيم الجسور، وتقوم بالتوسعات الخيالية، ويكفي أن نعلم أن المسجد الحرام يستوعب ثلاثة ملايين مصل ي وقت واحد، لنعلم أي إنجازات قد تم تحقيقها في سبيل راحة وأمن وطمأنينة ضيوف الرحمن الذين يتحرّكون في وقت واحد إىل منى في يوم التروية، وإلى عرفات – أهم المشاعر المقدسة في الحج – ثم ينفرون إلى مزدلفة ومسجدها الفسيح الذي يستخدم ليوم واحد في العام مثله مثل جميع المرافق الممتدة بين مكة المكرّمة وعرفات، وهي مرافق كلفت مليارات، واستغرقت جهوداً طائلة، وتحتاج إلى صيانة دائمة، وتوسعات مستمرة، ولولا أن المللكة لجأة إلى التقنين في أعداد الحجيج لوصل عددهم إل ما لا يمكن السيطرة عليه، ولنا أن نتصور كم يأكل وكم يشرب ضيوف الرحمن، وكم يحتاجون إلى مياه الوضوء والإغتسال، وكم مئات الآلاف من الخيم المقاومة للحرائق ومن وسائل النقل التي تحتاج إلى بنية هائلة ومتينة، إلا اضطرب الميزان وحل الخطر محل الأمان الذي يوفره مائة ألف شرطي، إضافة إلى دعم القوات المسلحة وعشرات آلاف المتطوعين، وسط كل هذا المحشر لا بد أن نتوقع هنات هنا أو هناك لأن الكمال لله تعالى وحده
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها=كفى المرء نبلاً أن تُعدّ معايبه
لذلك لا يمكن المرء إلا أن يهنئ الأشقاء في المملكة على نجاحهم وتوفيق الله عزّ وجلّ المحيط بهم لخدمة ضيوف الرحمن وتسهيل تفويجهم وتسكينهم وتطبيبهم وإعادتهم سالمين غانمين إلى بلدانهم وقد أدوا بإيمان ويقين وسكينة الركن الخامس من أركان الإسلام، وأنا أعتقد أن هذه اهي الجائزة الكبرى التي تحصل عليها المملكة وليس العوائد المادية التي تدفع مقابل خدمات حقيقية ومشتريات تغطي أذواق جميع الحجاج، ففي مكة والمدينة وجدة يجتمع من الصنائع والبضائع ما لا يجتمع في أي مكان آخر من العالم. أما الجائزة التي تحدثت عنها فهي السمعة الحسنة والتقدير الصادق والإطلاع الميداني بعيداً عن ترويجات الإعلام لأقدس مقدسات المسلمين بأمر من الرحمن تخشع له القلوب، وتستجيب له النفوس. {وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوّفوا بالبيت العتيق}.
تأمل يا أخي وصديقي وأنت تستمتع بالعيد، وتدبّر هذه الآيات الناصعة كفلق الصبح، وما فيها من كريم المعاني ورفيع الأخلاق وعظيم الجزاء لمن أدى حجّه بإيمان وإحسان، وعاد منه صفحة بيضاء كما ولدته أمه.
كل عامٍ وأنتم بخير