سكة حديد…

كأنني سمعت حديثاً أو تصريحاً أو تمنياً ذات يوم، وربما كنت أحلم كذلك الفيلسوف الصيني الذي حلم أنه فراشة، ولكن الأمر اختلط عليه بعد ذلك فلم يعد يدري أهو فراشة تحلم بأنها إنسان أم هو إنسان حقاً يحلم بأنه فراشة، ذلك أن حجباً شفافة تحول بين المرء ونفسه لكأنما الحياة بكلّها مجرد غفوة يستيقظ منها الإنسان عند موته. أما ما سمعته أو ظننت أنني سمعته فهو أن بلدنا يفكر جدياً بإنشاء خط للسكك الحديد يربط مدن الموانئ من ميدي على البحر الأحمر إلى رأس مرباط على بحر العرب، ثم يتفرع بعد ذلك إلى مدن العمق ليتسلق الهضاب كما تتسلق الحرباء بواسق الأشجار المتطاولة، على كل حال وأياً كان الأمر فإن الكثير من الأفكار في بلادنا السعيدة تولد في الأحلام ثم تند عنها اللسان ثم تغرق في النسيان، كذلك الحلم الوليد بتوليد الطاقة الكهربائية من المولدات النووية ذات الطابع السلمي والذي وئد ولما يزل في المشيمة (نطفة) أو مضغة أو علقة.

بالنسبة لي شخصياً حلمت بعدد من الرحلات في هذا المدى المترامي في التهائم وعلى الشواطئ الزرقاء وفي ظلال الجبال التي تطل من الآفاق القريبة من السكة، ولكن اصطحبت معي نوارس بيضاء ودلافين لاهية وأديت التحية الواجبة لسفن تعبر حيث تنكسر الرؤية على خط الأفق، وتمنيت لها صيداً وفيراً في مياهنا، كما تمنيت عليها لو جاءت علينا بشيء من ميراثنا عن آبائنا، خاصة ونحن الآن بين نارين: القراصنة الصومال الذين جازوا اليمن جزاء سنمار، ونار قراصنة الأسماك الذين يجوبون البحار بسفنهم الشفاطة ومصانعهم التي تصدر بعد أن تنظف وتعلب وتكرتن، وفي تقديري أننا لو ركزنا استثمارات يعتد بها في مجال ثروات البحار لأصبح لنا شأن وأي شأن بدلاً من الكسرة اليابسة والماء القزح الذي يذكرنا بقناعة ميسون البحدلية زوجة معاوية الذي بنى لها قصراً في غوطة دمشق فأنفت نفسها منه وحنت إلى ديارها الفقيرة في نجد فأخذت تنشد:

لبيت تخفق الأرياح فيه : أحب إليّ من قصر منيف

ولبس عباءة وتقر عيني : أحبّ إليّ من لبس الشفوف

وأكل كسيرة في ركن بيتي : أحب إليّ من أكل الرغيف

وكلب ينبح الطراق دوني : أحب إليّ من قط ألوف

والله أعلم “إيش” كان حال الخالة ميسون وماذا كانت تعاني لأن المغزى يبحر في ثج المعاني ثم ما علينا من البحدلية فمتى نريد الرغيف النظيف وليس بيننا عداء مع القط الألوف.

على كلٍّ هذا ليس موضوعنا، وإنما أقحمت ميسون لأن بعض القراء يحب قراءة بعض الأشعار المميزة، وربما استنساخها وحفظها، أما الموضوع فهو إن أبناء عمومتنا (دول مجلس التعاون الخليجي) بحثوا أمس الاول في مسقط العاصمة العُمانية مشروع سكة حديد مجلس التعاون، ويبدو مما رشح أن الدراسات قد اكتملت واقتربت ساعة التنفيذ. ويمتد خط السكة لمسافة 1940 كيلومتراً عبر كل من السعودية والبحرين والكويت وعمان وقطر والإمارات – لاحظ أن ما بين ميدي ورأس مرباط داخل الجمهورية اليمنية أطول مسافة واستنتج ما شئت عن ثرواتنا الغارقة حتى يأذن المولى بإخراجها بعد أن تشتد عزائم الرجال والنساء – وسيتم تأسيس شركة سكك حديدية مشتركة تمتلك وتمول الخط حيث تمثل مساهمة كل عضو في المشروع حصته في الشركة، وتقضي الخطة بأن تقل قطارات تعمل بالديزل وتصل سرعتها إلى 200 كم/ساعة ركاباً وشحنات بين الدول الست التي تهدف لتشكيل تكتل إقتصادي إقليمي يضم سوقاً مشتركة واتحاداً جمركياً وعملة موحدة، ويتكلف الخط الحديدي 11.2 مليار دولار إضافة إلى 3.1 مليار دولار تكلفة الأرض، ويتوقع أن يبدأ التشغيل في عام 2016م.

ما كان ضرّ لو شمل المشروع اليمن خاصة إن التكلفة الموزعة على 8 سنوات مقدور عليها، ولو بالإقتراض، أما السوق المشتركة التي ستضيف 25 مليوناً إضافيين فالمصلحة فهي أوضح من عين الشمس ولا نريد التذكير بقصيدة المقنع ويكفي مطلعها:

إن الذي بين وبين بني أبي : وبين بني عمي لمختلفٌ جداً

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s