بيت الداء

يقول العرب “أن المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء”، وقد أحسنوا التشخيص، ودلوا على الدواء بالخبرة وحُسن التبصّر، والمعدة إذا ارتبكت أمورها وتلبكت وأبرقت وأرعدت فإن الجسد يستجيب لها، ليس بالسهر والحمى فقط، وإنما بتشويش الجملة العصبية، حتى لا يعرف المرء كيف يصف ما هو فيه. وقد سألني الطبيب، فقلت له: “إنها حالة من التصحّر، كأن ما في معدتي رمل وليس غذاء، وأن معدتي تحول بيني وبين كل شيء حتى الماء”، قال لي: “هذا وصفٌ لا نعرفه في علم الطب، ما الذي جاء بالرمل إلى معدتك؟”، قلت له: “هي محاولة للتقريب، لعلك تفهم عني بلغة الأدب ما لا أفهمه عنك بلغة الطب”. وكان المعالج من شبه القارة الهندية، بالكاد يقيم جملة عربية، أما إنجليزيته فكأنه يقضم الحصى، وعليّ أنا ابتلاعها، فأصبحنا “عمياء تخضّب مجنونه”، وبدون اللغة يصبح الناس كسكّان برج بابل التي تروي الأسطور أن الله تعالى عاقبهم ببلبلة ألسنتهم، فلم يعد أحدٌ يعرف عن أحدٍ شيئاً، وبذلك تفرقت بهم السبل وتفرقوا “أيدي سبأ”.
على كل حال المعدة تتحسس حتى من اللغة التي تكتب بها، ولذلك لم أشعر بغرابة تجاه غربة الشاعر العراقي المقيم في لندن والذي يردد أبياته الوجه التلفزيوني اللامع أحمد قنديل من فضائية دبي:
جس الطبيب خافقي، وقال لي هل ها هنا الألم؟
قلت له: نعم
فشق بالمشرط جيب معطفي وأخرج القلم
هز الطبيب رأسه ومال وابتسم
وقال لي: ليس سوى قلم
فقلت لا سيدي
هذا يدٌ وفم
ورصاصة ودم
وتهمة سافرة تمشي بلا قدم
لذلك أقول إنّ على الكتّاب أن يتقصوا أحوال أقلامهم ليدركوا الألم، ويطردوا كوابيس الحمى التي تهجم عليهم بعد المغيب، مثلما كانت تهجم على أبي الطيب المتنبي:
وزائرتي كأن بها حياء=فليس تزور إلا في الظلام
بذلتُ لها المطارف والحشايا=فعافتها وباتت في عظامي
ومع ذلك نقول أن الشكوى لغير الله مذلة، والناس دائماً يسألون المريض: “لماذا لا تذهب إلى الأطباء؟” وهم لا يدركون أن الأطباء لم يُؤتوا من العلم إلا قليلا، هذا إذا أحسنوا التشخيص وأسعفتهم الذاكرة في توصيف الدواء، ومثلهم في ذلك مثل الحكّام الذين يطمحون إلى الخلود، دون أن يعدوا له العدة اللازمة، ومع ذلك فإن أحداً لا يرضى عن أحد:
إن نصف الناس أعداء لمن=ولي الأحكام.. هذا إن عدل
اليوم كدت ألا أكتب شيئاً استجابة لأمر المعدة، ولكنني قلت: “قد تكون العافية في الكتابة لا في الأكل والشرب وتناول الأقراص الكيماوية التي ترميها المعدة إلى الكبد ليغص بها”، ودائماً مع أبي الطيب:
يقول لي الطبيب دواك عندي=وداؤك في شرابك والطعام
وما في طبّه أني جوادٌ=أضرّ بجسمه طول الجمام

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s