
الإنسانية تقدم الكثير من النماذج المضيئة التي تتحدى الظلام والظلاميين وتعلي عاليا شعلة الحرية والنقاء وروح الله التي لم يخص بها قوما ولا لونا ولا جنساً وإنما بثها في العالمين ليكون الناس إخوة متحابين متعاونين، وهو ما يغفل عنه أو يتغافل الكثيرون من دعاة العنصرية والتمييز والذين لا يخلو منهم أي مجتمع وإن كانوا يتقنعون بمختلف الأقنعة، ويكفي أن ينظر المرء حواليه ليجد هذه النماذج القبيحة التي تدعي التميز أو العصمة أو التفوق لا بالتقوى ولا بالعلم وإنما بالحسب والنسب واللون الذي ليس له عند الله وفي موازين الإنسانية من سند ولا يسوّق بشروى نقير. إن الديمقراطيات الشكلية الكرتونية التي تسود العالم الثالث تحديداً تتخذ الشعارات المرفوعة على الواجهات بديلاً عن التغيير المطلوب في الواقع والذي يحتاج إلى التفتيش في زواياه عن المهمشين المنبوذين من النساء والرجال وقد قدم فوز باراك أوباما بالرئاسة الأمريكية دعماً عالمياً لحركة الكفاح ضد التمييز العنصري: كتب ديزموند توتو الأسقف الفخري لكيب تاون والحائز على جائزة نوبل للسلام لعام 1984م إنني أفرك عيني غير مصدقٍ أن يصبح باراك اوباما الذي ينحدر من أبٍ كيني هو الرئيس المقبل للولايات المتحدة الأمريكية، ولكنها الحقيقة المبهجة بالفعل، لكونها تمثل تحولاً جذرياً كان يصعب توقع حدوثه في الحياة السياسية الأمريكية، ولشدة فرحي بإعلان نتيجة فوزه، وجدت نفسي مأخذواً برغبة قوية في الرقص والصراخ والهتاف تماماً مثلما أدليت بصوتي للمرة الأولى في انتخابات بلادي جنوب أفريقيا في 27 ابريل 1994م.
بالأمس نعى الزعيم نيلسون مانديلا «المغنية ورفيقة الدرب أيقونة الكفاح ضد العنصرية ميريام ماكيبا (76 عاماً) التي سقطت على المسرح في جنوب ايطاليا بعد عرض فني قدمته لصالح عائلات 6 أفارقة قتلوا على يد إحدى منظمات المافيا في سبتمبر الماضي، وقد وصفها مانديلا بـ«سيدة الغناء الأولى في جنوب أفريقيا» وقال بتأثر بالغ وتقدير صادق لدور هذه السيدة في النضال «إن الرحيل المفاجئ لحبيبتنا مريام أدمى قلوبنا وأحزن أمتنا، وأضاف لقد قضت بعد أن أمضت آخر لحظاتها على خشبة المسرح وهي تنعش القلوب والأرواح، ومرة أخرى دعماً لقضية خيرة.
حقا إنه لا يعرف قيمة الكبار وجلائل أعمالهم إلا الكبار من أمثالهم الذين ينفذون إلى ما وراء الظواهر من الينابيع والألق والحب.
وكانت ماكيبا من الكبار في ركب الإنسانية الحقة التي لا تعترف بالدمى الزائفة من الرجال والنساء الذين يتربعون على المسرح وتحت الأضواء دون أن يكون لهم أي اسهام في مسيرة الحياة الخيرة، وليتأكد ذوو النوايا الطيبة والشجاعة الفائقة من العاملين على إلحاق الهزيمة بقوى الظلام أن سجلاتهم ستبقى مصدر إلهام لا ينضب بينما تجف أوراق ذوي السجلات المخزية وتتساقط كأوراق الخريف. وأستذكر هنا سيرة وأفكار وأعمال أستاذنا عمر عبدالله الجاوي الذي كان نصيراً للمستضعفين والمهمشين وضحايا التمييز والعسف، وكان حقا مناراً لم ينطفئ ولن ينطفئ أبداً.
وكانت مريام ماكيبا قد حازت من الشعوب وليس من الحكام لقب «ماما أفريقيا» تقديراً لها حيث أنها أكثر الأصوات المحبوبة في كفاح بلدها ضد العنصرية خلال سنوات مديدة قضتها في المنفى بوصفها سفيرة للموسيقى الافريقية في الغرب، لننصت جميعا إلى صوت ماكيبا الآسر من أجل زراعة الأمل وقهر القهر.