وإنَّ غداً…

هُو الغد بالنسبة لزمن الكتابة، لكنَّه اليوم بالنسبة إليكم، ولا أدري هل أكون مع نفسي أم أكون معكم، وعلى كُلِّ حال، فالكاتب ليس لديه أغلى من قُرَّائه، فهُو معهم كشاعر «غُزيَّة» :

«وما أنا إلاَّ من غُزيَّة إن غوت

غويتُ وإن تُرشد غُزيَّة أُرشدُ»

وأرجو أن يكون أمرنا على الرشاد لا على الضلالة، وأن لا نستبين الفُّصح ضُحى الغد، أيْ بعد فوات الأوان :

«نصحتهمو نُصحي بمُنعرج اللَّوى

فلم يستبينوا الرُّشد إلاَّ ضُحى الغدِ»

اليوم أكتبُ وأنا أُفكِّرُ في «باراك أُوباما»، وهل سيدخل التاريخ كأوَّل أسود يرأس أمريكا، الدولة الأعظم في العالم، وقد شاهدنا ملايين البيض، رجالاً ونساءً وشُيوخاً وأطفالاً، يهتفون لهذا القادم من أعماق التحيُّز، الذي طبع تاريخ الولايات المُتَّحدة الأمريكية مُنذُ زمن العُبودية والعبيد، والذي آن له الآن أن يتنحَّى جانباً، سواءً فاز «أُوباما» أم خسر، والأرجح أنَّه سيفوز، لكن ما من توقيعٍ على بياض، لأنَّ صناديق الاقتراع هي التي ستتكلَّم وليس الأُمنيات.

خاض «أُوباما» معركته الأُولى ضدَّ نفسه عندما قرَّر أن يكون شيئاً مذكوراً، وأن يجدَّ ويكدَّ ويجتهد، ليكون صُورةً لما في أعماقه من توقٍ إلى المجد ومن أشواقٍ إلى صفاء الإنسان، كما أراده المولى عزَّ وجلَّ، ولم يكُن لونه عائقاً، لأنَّ تلك المرأة العظيمة التي ربَّته، «جدَّته البيضاء»، والتي تُوفِّيت أمسٍ الأوَّل قبل أن تشهد جلجلته، منحته ذلك الألق الذي لا يُمنح إلاَّ من نُفوسٍ عاليةٍ لقُلوبٍ صافية، وذلك هُو المهاد الأخلاقي الذي يُراهن عليه العالم، أملاً في بزوغ عصرٍ جديدٍ يكون البشر فيه كما قال قُرآننا العظيم : «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم»، وليس على طريقة العولمة المُتوحِّشة :

«أرى حُمُراً ترعى وتعلفُ ما تهوى

وأُسداً جياعاً تظمأ الدهر لا تُروى

وأشراف قومٍ لا ينالون قُوتهم

وقوماً لئاماً تأكل المَنّ والسلوى»

«أُوباما» جمع في إهابه تواضع أفريقيا وسجاياها المُنسجمة مع الطبيعة، وكبرياء جدَّته لأُمِّه، التي وصلها كتابه، فماتت سُروراً كما ماتت جدَّة «المتنبِّي» :

«أتاها كتابي بعد يأسٍ وترحةٍ

فماتت سروراً بي فمتُّ بها همَّا

حرامٌ على قلبي السُّرور فإنَّني

أعدُّ الذي ماتت به بعدها سُمَّا

تعجَّب من خطِّي ولفظي كأنَّها

ترى بحُروف السطر أغربةً عُصما»

ما علينا، فالجدَّات يتشابهن، وما أَحَبُّ من الولد إلاَّ ولد الولد، فكيف إذا كان في «كاريزما أُوباما»، الذي بدا في مُواجهته للأسد «ماكين» الذي أبلى البلاء العظيم في حرب فيتنام، كأنَّه سيف الدولة في عين «المتنبِّي» :

«تمرُّ بك الأبطال كلمى هزيمة

ووجهك وضَّاحٌ وثغرك باسمُ»

يبدو أنَّني «مُش» ضابط النصّ، لكن بعض ما اختفى منه في ذاكرتي يقول : «كأنَّك في جفن الردى وهُو نائم»، وسامحونا حتَّى صباح الغد، وإنَّ غداً لناظره قريب.

 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s