أصبحت الجمهورية اليمنية في نطاق الأعاصير البحرية التي لا يعرف أحد متى تتشكل ومتى تبدأ الحركة ومتى تضرب البحر في البر وتستمطر طوفانات السماء، وكنا قبل ذلك لا تمر بنا إلا مرة في عمر الإنسان.
وقصارى المعرفة الإنسانية في زمننا الراهن هي المراقبة عبر الأقمار الصناعية والأرصاد، ومواكبة حركة الطوفانات للحصول على إنذار مبكر، كما كان الأمر في الإعصار الذي ضرب المحافظات الشرقية، وفي العام الماضي بالكاد نجينا من الإعصار المدمر المهول الذي ضرب الشواطئ العُمانية المجاورة وأجهز على العاصمة مسقط، وذلك بعد أن حوّل اتجاهه وتلاشت قواه، وهذه الحالة – التي هي قدرنا وقدر جيراننا – قد نتجت عن التغيّرات المناخية التي تجتاح العالم بأسره، فلم يعد هناك فرق بين بحر العرب والبحر الكاريبي وخليج المكسيك، وقد رأينا كيف انكشفت الولايات المتحدة الأمريكية – بكل طاقاتها وجبروتها وتقدمها العلمي ووفرة أموالها – أمام الإعصار (كاترينا) ما اضطرها إلى توجيه نداء لكل دول العالم لمد يد العون، إن هذا يعني اعتماد استراتيجيات جديدة لمقاربة الخطر والحدّ من أضراره، فالبنية التحتية التي ينبغي إعادتها إلى وضعها لا بدّ لها من اعتماد أعلى معاييرالجودة، وليست مجرد أسفلت على تراب في مجال الطرق، كما أن تراخيص البناء ينبغي أن تلحظ هذه التغيرات المناخية، وأن يتصدّى لها أساتذة المعمار المعتمدين مدعومين بخبرات أجنبية مرحّب بها، وأعمال العشوائيات المخالفة على شواطئ البحار وبالقرب، وعلى جنبات المدن، حيث تبدوا كالأورام السرطانية التي لا بد من إجراء عمليات جراحية لها مع الأخذ بعين الاعتبار معاناة ساكنيها وحقهم في الحصول على أراض لتشجيعهم على البناء النظامي بدون تعقيدات تنتمي إلى أنظمة بالية… ولا بد لنا من التفكير في إنشاء احتياطات استراتيجية مخزنة بصورة جيدة في مختلف المحافظات، ويتم تدويرها بصورة علمية تراتبية، فقد كشفت المحنة أن هذا الأمر كان غائباً ما عدا ربما لدى معسكرات القوات المسلحة التي لم تبخل ببعض ما لديها، ولكن المسألة ليست كرماً أو بخلاً، وإنما إنقاذ أرواح في زمان ومكان ضاغطين على الأنفاس، ليس عيباً أن نتعلم من قصورنا، فالإنسان يتعلم من المهد إلى اللحد، والحياة تأتي بكل جديد وغريب، ولكن العيب كل العيب أن نسارع إلى النأي بأنفسنا عن المعرفة وتجميل كل قديم متهالك، والخوف من كل جديد متدارك لما ظهر وبان وفاح… وقد آن الأوان لاستخدام طاقات الشباب من المتعلّمين والمتحمّسين والمندفعين إلى ميادين العمل، على أن تكون قياداتهم من أصحاب الخبرات المعترف بها، فالأوطان لا تُبنى بالكلام والمفاخرة الفارغة والأناشيد، ولا بد لنا من استثمار جزء من المدخرات الوطنية في النقل البحري الذي لا يحتاج إلى شق طرق موادها مغشوشة أو شبه مغشوشة يعني “طرق مشي حالك”، وكذلك مطارات مزودة بوسائل التعامل مع سوء الأحوال الجوية أيام الأزمات. أحسست أن منظمات المجتمع المدني التي ملأت الدنيا عويلاً قبل الكارثة قد اختفى صوتها “فص ملح وذاب”، وهذا يعني أن حدود دورها هو الكلام على الورق والخطب على المنابر وليس لديها أي بنية تحتية، ولا أدري هل لدينا “هلال أحمر يمني أم لا”، كما كان الشأن في جميع دول العالم ذات الهلال والصلبان، فلم تتم الإشارة إليه في أي مهمات، ولم يبرز على السطح سوى مؤسسة الصالح التي لا ندري استعداداتها لمثل هذه الكوارث الكبرى، ولا بد أن هناك دروساً مستفادة من الأزمة لم تظهر حتى الآن، أو أن الذين قاربوها لم يتكلموا، فنحن “لم نر من الجمل سوى أذنه”، وقد كانت مبادرة قطاع رجال الأعمال مهمة ومؤسسة لهذا القطاع في نظر الشعب، ولكنها لم تكن كافية، فما زال الأمر يحتاج غلى تكاتف واسع للشعب على قاعدة “لا تستحقر القليل فإن العدم أقل منه”. ولكم أسعدني مساء أمس الأول اتصال هاتفي من رجل الأعمال “قاسم عبدالرحمن الشرفي” في أبوظبي يسأل عن القنوات المتاحة للتبرع، حيث قرر التبرّع بعشرين مليون ريال، وسبق أن أشدت بمجموعة السعيد التي فتحت الباب، ذلك أن “من لا يَشكُرِ الناس لا يشكر الله تعالى”. وشكراً لفخامة الرئيس الذي بدا في ميدان المعركة قائداً وأباً وأخاً ومعبراً عن كرامة اليمنيين.