تكمن النار ساكنة في حجر (المرو) الأبيض المتقد الأحشاء، فإذا ما قدح أحد حجرين ببعضهما تندلع شرارات النار وألسنتها، فإاذ كان القادح حصيفاً مسيطراً استضاء بجذوته واستفاد من ناره وأنس إليها.
وإذا كان ساهياً لاهياً مغضياً عن الأخطار فربما أحرقته، وتواثبت لتأتي على اليابس والأخضر والسائل والمنقول، وحينها لا ينفع الندم ولا قول لا أو نعم، حيث يسود عقب الحريق أصحاب “ولعم” تقية وطلباً للسلامة وإيثاراً لراحة النفس على الندامة.
علماء المسلمين وأصحاب الأقلام ودعاة تسييس الدين وتديين السياسة والناقمون على أي شيء وكل شيء يخوضون هذه الأيام في قضايا ملتبسة على الجمهور، ويحومون بأقلام مسنونة، ونفوس مشحونة حول حمى النار، “ومن حام حو لاحمى أوشك أن يقع فيه”، أصحاب الفتوى غاضبون، يخرجهم عن تأنيهم ووقارهم السائلون، ويثير حفيظتهم المترصدون الذين ينابزونهم بالألقاب، ويسبقونهم إلى الأبواب، فيجنحون إلى التشدد سداً للذرائع كما يتصورون، ويعممون ولا يخصصون، فيأخذ العامة عنهم ما يريدون اعتسافاً على قدر أفهامهم ونوازع نفوسهم وهم بالتعميم وتحكم السائل بالمسؤول ربما قالوا جزافاً لا يتبينونه سوى عندما يرون ردود الأفعال تترى وتستهدفهم استهدافاً.
لقد ذبلت مجالس الدرس الرصين والعلم المكين في الزوايا والتكايا وتتصدر الفضائيات المرئية وأمواج الراديو السمعية وشبكة العنكبوت الإنترنتية فضاء الدرس والتدريس في هذا الزمن الملتبس، وهي تصل إلى مئات الملايين من الناس حيثما كانوا، ولذلك اختلط الحابل بالنابل، فهذه الأدوات العصرية التي تبث على مدار الساعة تحتاج لتغذيتها إلى ما يشبه دفق السيول عقب الأمطار الغزيرة، وهذا الدفق فيه ما ينفع الناس وفيه الغثاء الزبد الذي يذهب جفاء.
ولذلك وجب على الأفاضل الخروج من جلودهم البالية ليروا ما يجري في الدنيا، وأن يصلحوا من أمر علمهم ووسائلهم، وأن يعتمدوا في منطقهم الترفق الذي قال عنه نبينا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم أنه ما دخل في أمر إلا زانه، وما صرف عن أمر إلا شانه أو كما قال.
أصحاب الفضائيات المسيئة تطاردهم فتوى القتل الجائز بحقهم قضاء إذا لم يرتدعوا، وهذا استباق للحكم قبل التحقيق وقبل عبور درجات التقاضي، وقد أثارت الفتوى من اللغط ما أثارت، فعلق عليها المعلّقون، وسخط على من علقوا من رأوا في الآراء المخالفة انتقاصاً من مكانة العلماء، فجاءت فتوى من توابع الزلزال بجواز سجن الصحفيين المتحاملين وجلدهم وفصلهم من أعمالهم. يا سبحان الله، أتضيق النفوس إلى هذا الحد؟
وجاءت فتوى فضائية بأن ميكي ماوس الدمية الكرتونية نجس، وأن تحبيب الأطفال في فأر مخالف للشرع، وأن الواجب هو قتل الفئران في الحل والحرم، وهكذا جرى إعلان الحرب بين مملكة البشر ومملكة الفئران. وكنا قد خضنا قبل ذلك في فتوى جواز إرضاع الموظفة لزميلها 3 رضعات حتى يمكن قفل الباب عليهما في العمل، وقد ضحك الناس واعتبروا الأمر نكتة، وفتحت الأبواب لأحاديث كانت مغلقة. والآن برزت إلى الميادين الإرهاصات التاريخية للتسنن والتشيّع، والعاصفة تتجمع فيما العالم يتفرّج على المنصرفين عن الحضارة، العاملين على تثبيت الإمارة.
ارحمونا من كل هذا يرحمكم الله.