“جورج تنيت” شغل منصب مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية بين 1997 و2004م، وهي الفترة العاصفة التي شهدت فاجعة سبتمبر في أمريكا فغيرت الاستراتيجيات وبدلت العقليات وأدخلت العالم في نفق ليس في نهايته بصيص ضوء حتى الآن حيث تلا 11 سبتمبر غزو افغانستان ثم العراق ومصرع مئات آلاف المدنيين والعسكريين وتدمير بنى تحتية هي حصيلة جهود أجيال وستستغرق جهود أجيال مستقبلية لإعادة تشييدها.
يروي جورج عبر كتابه “في قلب العاصفة.. السنوات التي قضيتها في السي أي إيه” قصته مع نفسه ورؤسائه ومع الأحداث التي وجد نفسه في قلبها كمن يمخر عُباب البحر الهائج بقارب شراعي.. وشهادته للتاريخ التي قالت أشياء وغابت عنها أشياء هي عرض للحال من الداخل، وتفحص للأصداء من الخارج، وملامسة لوقائع وأحداث أصبحت في ذمة التاريخ من منظور الزمن الماضي وفي عين العاصفة مع استمراريتها والوقائع التي تستحدثها وحتى زمن غير متناه من منظور المستقبل.
في الكتاب تبدو السي أي إيه خارج الأسطورة وهالة الدعاية، فهو لا يكف عن الشكوى من ضعف الإمكانيات وقلة الموارد المالية والبشرية لدرجة الإشارة إلى أن ما لدى الـ إف بي آي – الاستخبارات الداخلية – من عملاء في مدينة نيويورك لوحدها يفوق ما لدى السي آي ايه في جميع أنحاء العالم، كما يجأر بالشكوى من تداخل الاختصاصات بين الأجهزة والبنتاجون ومكتب نائب الرئيس واستشارية الأمن القومي مما يخلق تضاربات مرجعية وفوضى إدارية وانحطاط معنويات يؤثر على الأداء ويقتضي إعادة البناء والهيكلة في مختلف المراحل. وفي المقابل يستعرض تنيت إنجازات خارقة وعلاقات معقدة مع مختلف دول العالم والقوى المؤثرة في الأحداث تتحقق أحيانا بالمراضاة والمصالح المتبادلة وأحيانا أخرى بالضغط الذي قد يصل إلى حد كسر العظم، أو بالمال الذي “يجيب الجن مربطين” كما نقول في اليمن.
مثال عن غزو أفغانستان “كنا نسأل زعماء القبائل، هل يمكننا الاعتماد عليكم لمساعدتنا في إخراج القاعدة وحماتها طالبان من افغانستان؟ إذا كان الجواب نعم، سرعان ما كان الغذاء والمؤن الطبية والأجهزة العسكرية تسقط جوا إليهم، كما كان بعض ضباطنا ينامون على عدة ملايين من الدولارات نقدا، وقد استخدمت للاستفادة من عادة تبديل المواقف لدى الأفغان، فالزعيم الأفغاني الذي يساعد الولايات المتحدة يجد الإجابة على دعواته تسقط من السماء بعد ساعات. لكن إذا كان الزعيم الأفغاني يرفض العمل معنا. ما يعني الإعلان عن نفسه وقبيلته أعداء لنا، فقد تجد قبيلته نفسها طرفا في تلقي نوع آخر من الاسقاط الجوي وقنابل زنة ألف كيلو جرام من الجيش الأمريكي”.
هذه هي السياسة على بلاطة، فلم يكن جورج تنيت بحاجة إلى الاختباء خلف إصبعه، ذلك أن 11 سبتمبر قد حرر جميع الشياطين من أصفادها، ولأن مصائب قوم عند قوم فوائد فإن السي آي ايه والبنتاجون وأمراء الحروب التابعين قد استفادوا من بحر الإمكانيات والموارد غير المحدودة، وأصبحت الشكوى من التخمة لا من المعدة الفارغة.