سئمت تكاليف الحياة

تمضي سفينة الحياة بالإنسان وهو يظن أنه الربان، وقد يتمادى في الظنون فيعتقد أن الرياح تأتمر بأمره وأن الأشرعة لا ترفع إلا تحية له، ومن ميناء إلى ميناء في بحر العمر، وهو في كل منها يفقد قدراً من ثقته بنفسه، وتتسرب من بين أصابعه قواه الحيوية حتى يجد نفسه ذات يوم وهو لا يعلم من بعد علم شيئاً، وقد أصبح وأصبح الملك لله.

كنت أمس أقرأ حول خرف السيدة الحديدية التي حكمت انجلترا بيد من حديد وخاضت الحرب ضد الارجنتين في أعالي البحار دون أن تتراجع قيد أنملة أو يعتريها خوف العباب وبذلك أعادت إلى إنجلترا في حرب الفوكلاند تلك الهيبة التي افتقدتها منذ أصبح الأسد البريطاني عجوزاً تبول عليه الكلاب في الامبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس. وتقول كارول تاتشر مؤلفة الكتاب وهي ابنة السيدة مارجريت تاتشر أن والدتها صعقها الخرف حتى أصبحت معه غير قادرة على تذكر أبسط الأمور وقد كانت تجد صعوبة في إكمال جملها وتردد الأسئلة نفسها دون أن تدرك ذلك، حتى أنها كانت تنسى باستمرار أن زوجها دنيس توفي في عام 2003م وقد اضطرت الابنة إلى إبلاغها بالنبأ مرات عديدة وفي كل مرة تدرك فيها أنها فقدت الرجل الذي عاشت معه أكثر من 50 عاماً كانت تنظر بحزن وتسأل: هل كنا موجودين عند وفاته؟. وهذه صورة متكررة لأرذل العمر، وقد مر قبلها الرئيس الأمريكي ريجان حليفها والمعجب الأزلي بشخصيتها بنفس ما مرت به وشرب من الكأس نفسه حتى نسي تماماً أنه كان رئيساً لأقوى دولة في الأرض، الولايات المتحدة الأمريكية ونسي حتى اسماء أهله وسنهم، وحين كان الناس البسطاء يحيونه وهو في طريقه إلى النادي حيث يؤدي بعض الرياضات التي تناسب سنه كان يتساءل باندهاش لماذا يحييني هؤلاء؟. هذان مثالان من عالم المشاهير المليء بالمعوقين ولكن الظاهرة عامة ونحن نراها حوالينا وبين معارفنا وأحبابنا ممن تقدم بهم العمر، ومع ذلك قد نستغرب ونضرب أخماساً في أسداس ونحن نرى الذكي قد تحول إلى ما يشبه الغبي أو نعتقد أن ذلك الذي نسي اسمنا أو شكلنا يتجاهلنا ويتظاهر بما يقوم به. والحق أن التوعية للجمهور ضعيفة في هذا المجال وهذا يؤدي بهم إلى عدم امتلاك أو إحسان السلوك تجاه مثل هذه الظواهر التي هي جزء من جبلة الحياة الإنسانية حيث تشيخ الخلايا وتتلاشى بكل ما فيها ولا تقبل جديداً يضاف إلى ما في داخلها مما اختزنته عبر مراحل العمر المتواترة لذلك قد نتذكر الطفولة بوضوح كمن يرى من نافذة إلى حقل في يوم مشرق، ولا نتذكر هل فطرنا اليوم أم لا وهل تعاطينا أدويتنا أم نسيناها. ويترتب على كثير من مظاهر الخرف الذي يأتي تدريجياً تبدلات في العلاقات يدركها الأطفال الصغار ببراءتهم أكثر من الكبار، فيقول لك الواحد منهم أن جده العجوز ينسى كل شيء، وأنه يخاف عليه حين يمشي لأنه يتمايل ويصطدم بالأشياء دون أن يقدر الموقف. والسأم هو أحد مظاهر الاقتراب من حافة الهاوية ولنستمع إلى الشاعر لبيد وهو يردد:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبالك يسأم

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s