الروائي السوري حنا مينة أحد الكبار في فنه وإبداعه وعطائه المستديم، وهو لا يُقارن سوى بالعمالقة من جيله مثل نجيب محفوظ الذي قال “إن حنا أحق بنوبل مني”، ذلك أن التميّز والعبقرية لا يعرفها في جوهرها المشع سوى العبقري المتميّز، فإمّا أن يقدرها حق قدرها، إذا كان من المنصفين الواثقين بأنفسهم وما يبدعون، وإما أن ينفـّس على ندّه مكانته وفرادته، فينتقصه بالسرد دائماً، وبالعلن كلما أمكن، وهذه حال مشاهدة في أوساط المثقفين عموماً، والنجوم اللامعين على وجه الخصوص، لأنه على حد قول المثل اليمني “خبازة ما تحب خبازة”، ومع ذلك فهناك من الخبازات من تستذوق خبز منافستها، ولو اضطرت إلى إرسال إحدى بناتها لشرائه، لأنها لا تريد أن تظهر في الصورة.
العم حنا مينة – مبدع: (المصابيح الزرق) و (نهاية رجل شجاع) و (بقايا صور), وغيرها غيرها الكثير – نشر قبل أيام على الملأ وصيته بعد أن بلغ من العمر 84 عاماً، عرك خلالها الدنيا منذ طفولته البائسة، التي لا تشببها سوى طفولة محمد شكري المغربي، وكلاهما علّما نفسيهما بنفسيهما، ونحتا شخصيتها كما ينقش صاحب الأزميل في الحجر الأصمّ وهو معلّق على حافة الهاوية.
وطلب في وصيته ألا يُذاع خبر وفاته في أي وسيلة إعلامية، وألا يحمل نعشه أحد معارفه، وإنما 4 موظفين من دائرة دفن الموتى، على أن ينفض هؤلاء أيديهم بعد إهالة التراب عليه في “أي قبر”، ويعودوا إلى بيوتهم، فقد انتهى الحفل، وأغلقت الدائرة.
وأوصى بأن لا تقام له أية تعزية أو شكل من أشكال الحزن، فـ “الذي سيقال بعد موتني سمعته في حياتي”، مضيفاً: “هذه التأبينات كما جرت العادة مُنكرة ومُنفـّرة ومُسيئة، وأنا أستغيث بكم جميعاً أن تريحوا عظامي منها”.
هذا ظاهر القول، بلغة محسوبة، ولكن باطنها عسير، فقد ضاق الرجل بالزمان وأهله، قربوا أم بعدوا، وسئم من التكريمات التي يكرمون بها أنفسهم قبل أن يكرموا المبدع، فأراد أن يخرج من دنياه كما دخلها… وحيداً متألماً غريباً لا منتمياً.
وجف الناس حتى لو بكينا=تعذّر ما تُبل به العيون
فما تندى لممدوحٍ بنان=ولا يندى لمهجوّ جبين
إن عالم البحر الساحر المسحور الذي أبدعته أنامل هذا العازف على الكلمات والمشاعر، وعالم المدن البحرية المتوسطية وناسها المكافحين المقبورين في الحياة، سيظل هو وصية حنا الحقيقية، وهديته إلى الأجيال، فقد عانى وكدح كالنحلة، ثم أفرز أجود أنواع العسل اللغوي، وفيه شفاء للناس… وأي شفاء.
وختم حنّا وصيته بالقول: “إنني أترك حرية التصرف بإرثي لمن يدّعون أنهم أهلي عدا منزلي في اللاذقية فلزوجتي مريم سمعان”… وهنا لا تعليق لي.