قف عند حدّك. .

تشكو الكثير من المجتمعات والحكومات وحتى الأفراد من اختلال الموازين في العديد من شؤون الحياة وشجونها، بحيث يتحوّل ما كان مأمولاً للتيسير إلى سبب للتعيسر، ويتم اكتشاف الخلل أو تشخيص أسبابه في كثير من الأحيان بعد فوات الأوان، أي حين يكون ثمن الإصلاح أعلى من ثمن الخراب، والحق أنه ما من اختلال إلا وتلوح بوادره منذ البدء، ويراه ناسٌ أكثر من آخرين، وقد ينبّهون إليه بالصوت العالي أو في أحاديث المجالس ولكن “لا حياة لمن تنادي”، إذا كانت مراكز القرار سادرة في غفلتها، فهي تؤجل عمل اليوم غلى الغد، أو تردّ بأن لكل مشكلة حل، وأن الزمن يبرئ كل الجراح، وربما كان هذا المنطق السكوني الإتكالي يمكن تبريره في أزمنة قديمة خامدة لم يكن يطرأ على بُناها سوى التحرير البسيط، وربما غير المحسوس في العشران من السنين، وقد نتأمل في حياتها لعدة مئات من السنين فتصل إلى نتيجة مفادها أنها مستنسخة عن بعضها، تحذو المائة عام اللاحقة المائة السابقة حذو الحافر للحافر في مشية الحصان، ولم تتغير سوى الأسماء، وإن كان الإبن سرّ أبيه ووريثه في سمته ومهنته حتى أصبحت أسماء الحرف أعلاماً على اسماء الأسر: السمّاك، اللحام، الخضري، النجار، البناء، السقّاف، الحجّار، النسّاج، الحكيم، وقس على ذلك… ولكن هذا التفكير السكوني المستسلم الناضب الخيال لم يعد صالحاً لهذا العصر، لاذي تجري فيه وتائر التطوّر بالساعات، ومع ذلك فإن غير المرئي منها أضعاف المرئي، وأصبح العالم الذي كانت تفصله المحياطات والسلاسل الجبيلة العظمى واللغات والثقافات القديمة أقرب للأفراد المختلفين من حبل الوريد، لكأن الريموت كنترول الذي يستدعي إلى غرفتك أربعمائة محطة فضائية من أرجاء الأرض قد جمع لاعلام بمساحة طرف إصبعك الضاغطة على أرقامه، أو لكأن (الموبايل) المحمول في يدك تستدعي بواسطته من اردت حول العالم قد هزن المحيطات والسلاسل الجبلية العظمى، وأعلى مجد الإنسان الذي استخدم عقله ومهاراته لتطويع القوانين المبثوثة في الأرض والسماء، وغهداء نتائجها غلى أخيه الإنسان المتخلّف الرافض لاستخدام عقله، والي لا يزال يعيش عقلية (مرابط الحيمر) واستحضار السحر والسحرة، وإن كان أمام الإشعاع المُبهر يستخدم ما تيسّر له من خوارق العصر، فتخرج له ألسنتها وهو يلعنها متحدية إياه أن يستغني عنها… وهيهات.

الإختلالات في شؤون الحياة وشجونها والتي سبقت الإشارة إليها تأتي بالدرجة الأولى من هذه العقلية التي تريد جني الثمار دون أن تغرس وتتعب، وتتطلع إلى النتائج دون أن تغوص في مقدماتها لتعرف كنهها، وترغب في تغيير الواقع وفق ما تهوى على أن تبقى قوانينه كما عهدتها لدى أبائها الأولين، وهذا مُحال مُحال، لذلك فإن درجة المستهلكين لمنتجات الحضارة هي الدرك الأسفل، ولا اعتراض، لان اليد العليا خيرق من اليد السفلى، والعقل الفاعل أزكى من العقل الخامل، ومن يسر في الارض يستنطق الحجار والتراب والأشجار هو أقرب غلى نبضها من ذلك الذي يلعنها ويستجدي ثمرها، فترد له تحيته بمثلها أو بأسوأ منها، ولا بدّ دون الشهد من إبر النحل. الحياة الحديثة فرضت تحدياتها وأعراضها المرضية في بيئة الإنسان التي لم تعد قادرة على تحمّل العبث الصبياني اللاعقلاني، وفي التشكيلات السكانية المتداخلة التي لم تعد تحتمل التفرقة في الحقوق والإغراق في الواجبات في سوق العمل، حيث لكل مجتهد نصيب، أو هكذا يقول المنطق، وفي التدفق الريفي غلى الحضر وما لحق بالمدن من تشوذهات نتيجة العشوائيات، وحتى في نمط التنمية غير المتوازنة والمتجاوزة للحدود بما حطّم أسعار المواد الأولية ارتفاعاً، وخنق الطرقات ازدحاماً، وغرّب الإنسان أوطاناً، والشيء إذا زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s