راحت السكرة وجاءت الفكرة في العلاقات الدولية التي أخذت تتبلور عقب انهيار المعسكر الشيوعي ولصالح المنتصرين حتى وإن لم يخوضوا حرباً لأن النصر والهزيمة شعوران ينبعان من الرؤية الذاتية لكل فريق في الصراع، ولقد تصرّفت موسكو يلتسين تحت وطأة مشاعر هزيمة من نوع ما، وعليه شرعت في تقديم التنازلات تلو التنازلات قياسا إلى الأوضاع التي كانت سائدة قبل الانهيار وتفرق الكوكبة السوفيتية وذهاب كل منها في مدار، أما واشنطن فقد تصرفت بعقلية ونفسية المنتصر فشجعت رحيل الدولة المستقلة “السوفياتية سابقاً” بل وأخذت تحرضها تحت شعارات الديمقراطية واستقلالية القرار مع عدم مراعاة الوقائع على الأرض حتى أصبح المحيط الروسي مزروعاً بألغام شديدة الخطورة، فجورجيا تنشد ضم أوسيتيا الجنوبية وأبخازياً حيث الأقلية الروسية والحكم الذاتي وقوات السلام التابعة لموسكو، وأوكرانيا التي كانت جزءاً من روسيا لعدة مئات من السنين ونصف شعبها تقريباً لا يريد الابتعاد عن مدار موسكو ناهيك عن أن يكون مخلب قط في ظهرها، أخذت حكومتها المنتخبة بفارق 1% تتودد إلى الغرب وتطلب ضمها إلى “الناتو” ليكون بذلك حلف شمال الأطلسي في الحديقة الخلفية لروسيا إن لم يكن تحت السرير، وبولندا وقعت على اتفاقية نصب رادارات الإنذار المبكر وتعقب الصواريخ مع واشنطن مما اعتبره الروس إحكاماً لحصار مبيّت، ودول البلطيق الثلاث الأكثر قرباً إلى الفلسفة الغربية أخذت تشدد النكير على موسكو في كل صغيرة وكبيرة ولا يستبعد غداً وهو لناظره قريب أن تبدأ القوميات غير الروسية المتأصلة في الاتحاد الروسي كفاحاً مدعوماً لانتزاع استقلالها، كما هو الحال في “الشيشان” والحاصل أن الخرق قد أخذ يتسع على الراقع، وقد كان الموقف الأوروبي حذراً بعض الشيء يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، ويعمل على خط الدبلوماسية لعله ينال بالملاينة ما لا يناله بالتهديد والوعيد، ويبدو أن أوروبا التي ذاقت غمار حربين عالميتين شاركها فيهما الروس إيجاباً ما تزال أصداء نظرية مونتجمري القائد الإنجليزي الشهير تتردد في آذانها، حيث يقول: إن قواعد الحرب في أوروبا ثلاث: الأولى لا تهاجموا روسيا، والثانية لا تهاجموا روسيا، والثالثة لا تهاجموا روسيا. وهذا ما أساءت فهمه جورجيا، ويقال أن ذلك تم بتشجيع من ديك تشيني المغامر الذي أراد دعم المرشح الجمهوري ماكين بإشعال حرب واسعة في البلقان، علماً أن حربه المأساوية في العراق لا تعطيه الحق في إدانة اختراق حدود الدول ذات السيادة، لأنه بذلك ينطبق عليه المثل “طبيب يداوي الناس وهو عليل”، وفي وسط الانقلاب الذي كسر الهدوء المتوتر الذي سبق العاصفة جاءت تصريحات الجنرال الروسي نوجوفستين- نائب رئيس هيئة الأركان- لتداوي رأس من يشكو الصداع، إذ قال: إن العقيدة العسكرية الروسية تسمح بشن هجوم نووي محتمل رداً على الاتفاق الدولي الذي تم توقيعه حول نشر أجزاء من الدرع الصاروخية الأمريكية ببولندا. وهنا استنكر الكثير من الأمريكيين رؤية هنري كيسنجر من أن الدول العظمى لا تخوض حرباً دفاعاً عن حليف، وإنما دفاعاً عن نفسها فقط.
على كلّ الأوراق كثيرة على الجانبين وما الخيارات العسكرية سوى بين الأقل فعالية، والأيام حبلى تتشمم رياح حرب باردة أو اقتصادية أو إعلامية خاصة بعد أن شُلّ مجلس الأمن بين فيتوين روسي وأمريكي.