تعليم وعمل

لم يعد مذاق الأخبار البهية أو الباهية – على قول المغاربيين العرب – يضيء المخيّلة المطفأة، ويبهج القلب العليل كما كان الأمر في سنوات الآلام العظيمة وصعود الجبال نفوراً من الحفر

ومن يتهيّب صعود الجبال=يعش أبد الدهر بين الحفر

الآن منطق الناس ينصّ على أن حفرة تعرفها خيرٌ من جبل تجهله، وقد يرميك “كجلمود صخر حطّه السيل من عل”، وهذا استنساخ لتجربة “جني تعرفه خيرٌ من إنسي تجهله”.

في الخمسينات من القرن المنصرم كنا حوالي 400 طالب نتدحرج كالجلاميد الصغيرة من جبال يافع إلى قعطبة للالتحاق بالمدرسة التي بناها الإمام أحمد لأبناء منطقتنا ومحيط مدينة قعطبة، بما في ذلك الضالع. بعد مشاورات ومداولات مع الشيوخ والوجهاء، وعلى أساس أن الاستعمار لا يريد خيراً بالبلد، ولا يمكنه أن يمد يد العون لإشاعة التعليم، وحتى لو فعل – وله في فعله مآرب أخرى – فإن المواطنين لن يقبلوا بمثل تلك العطيّة، لأنهم يفضلون الموت على الدنيّة. وكانت مناهج المدرسة تقليدية – مع مراعاة الحال في الجوانب الدينية – ويتخرّج الطالب عقب إجازته للخط العربي وجداول الجمع والطرح والضرب والقسمة في الحساب، إضافة إلى “سفينة النجاة” في المعلوم من الدين بالضرورة، دون الإيغال في الفروع والتفريعات والاجتهادات، وجاءت الحصيلة باهرة بمقاييس ذلك الوقت، وحاجة المجتمع وقدرة سوق العمل على الاستفادة، وحتى اليوم لا يزال ألمع خريجي تلك المدرسة – التي تحولّت إلى مزار لمن تخرجوا منها في حركتهم الدائبة بين صنعاء ويافع – يشار إليهم بالبنان، كنماذج للإحسان بمعناه الواسع، ولإقران القول بالعمل وتوظيف المعرفة منهما ضؤلت وكانت محدودة في ترقية الحياة واتخاذها سلماً كل درجة منه تقود إلى الدرجة الأعلى في أفق لا حدود له، ذلك أن الجيل المؤسِّس – بفتح السين – على شدة قد أصبح مؤسساً لأجيال تلت، ومع انفجار بركان التعليم الذي كان خامداً – إلاّ من شذرات نفس في هدير الحمم في الأعماق – وذلك في أعقاب ثورتي 26 سبتمبر 1962 و 14 اكتوبر 1963 – لم يعد في الإمكان إغلاق الأبواب التي أصبحت حطاماً، ولكن الإتجاه ركز على الكم وتناسى الكيف، وأهمل إعداد المعلم، وقصر في توفير المستلزمات العملية لدعم وتمكين وترقية المعطيات النظرية، كما لم تؤخذ فكرة ربط مخرجات التعليم بمخرجات سوق العمل مأخذ الجد، فأخذنا ندور كالجمل المعصوب العينين حول المعصرة، يدور أن يدري حاصل جهده، فالمهم هو ديمومة الحركة، وليس نتائجها، لذلك نجد اليوم عشرات آلاف الخريجين في سن العمل الذهبي دون فرص عمل، وفي وقتنا هذا أخذت الجامعات تتكاثر كالفطر حكومياً وتجارياً، وحتى النصابون أخذوا فرصهم في هذا العرس الوطني البهيج، وقد أصبح الخريجون يخجلون حتى من تعليق شهاداتهم في غرف استقبال الضيوف بمنازل ذويهم – إن وجدت – والمسألة بحاجة إلى وقفة جادة مسؤولة، فليس بالورق وحده يرتقي الإنسان كما كانوا يقولون في الحنين إلى الحرية بمقابل الخبز أنه “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”، وقد سبقنا إخواننا المصريون إلى هذه المتاهة التي وحدت أفلامهم الطريق إلى تجلياتها، حيث (الزبال) أكثر دخلاً من أستاذ الجامعة الذي يسبق اسمه حرف الدال، لكنه لا يملأ بطنه… ما علينا، فأهل مكة أدرى بشعابها، وقد أخذ أولئك الذين كانوا يرسلون فلذات أكبادهم إلى قعطبة، حيث يمشون لمدة ثلاثة أيام مهلكة يرسلونهم اليوم إلى المهاجر التي تضيق يوماً بعد يوم عقب انفتاح العالم على بعضه، وسهولة الانتقال من أقاصي الأرض، والتنافس في سوق العمل على الأجود والأرخص، والخلاصة ما حكّ جلدك مثل ظفرك=فتولّ أنت جميع أمرك، ويمكن شعار اليوم والغد: تعلُّم، وعمل، وخبز، وحرية… هذا إذا أردنا يمناً جديداً سعيداً.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s