في الإستثمار غير المرئي

قابلت عدداً من المغتربين المستثمرين، فوجدتهم على درجة من العناء والضنى كأن لسان حالهم يقول ما قاله ذلك الصوفي في أزمنة المكابدة والمكايدة والفوز من الغنيمة بالهروب لا بمجرّد الإياب:

يا معين الضنى عليّ
أعني   على  iiالضّنا

وكما تعلمون فإنه في عالم الغيب ومن عالم الغيب تتنزل الرحمات على قدر النوايا وكرم الكريم، وأقلها الّلوم عمّا ضاع، وأصبح نهباً للغبار وعصابات الغبار الذين يختلطون كما تختلط أتربة الغوبة بالشرطة والقضاء والنيابات والوجاهات المشيخات، والسعيد السعيد الذي ما عرف أين القضاء، لا الذي فيه قد صار ناشب، كما يقول المغني، أما في عالم البشر فلا يوجد غير خذ وهات وما فات مات، ومن أجل أن تقبض المائة إدفع الثمانين، والمغترب المسكين تتسرب ثمار عرقه من بين يديه كما يتسرّب الماء من بين الأصابع، وبعد أن يدفع ويضعون في يديه الأوراق، تخرج له الأشباح، كأنما كانت على ميعاد أو في الانتظار، وهكذا يجد نفسه في دوامة فيهرع إلى الجهات المسؤولة لتمكينه من حقه، والجماعة والحق يقال، كبارهم قبل صغراهم لا يبخلون بالتوقيعات، والجُمل التي تحمل المعنى ونقيضه أو اللا معنى.

وبما أنه لكل داء دواء في الطبيعة وفي أصل التركيب الرباني، فكذلك هو الأمر في الحقوق وفي التعليمات وأحكام القضاء فلكل أمر نقيضه حتى تمتلئ الملفات ويدخل المصلحون لاقتسام الحق بين صاحبه ومدعيه أو التعويض عن التعب والإرهاق والحراسة التي قام بها السالب الناهب، ومع ذلك فإن المسألة قد تنتهي هنا بدعاء الوالدين، وقد تبدأ من جديد بادعاء جديد في أرض وعقار وهات يا ورق من عيّنة بلّها واشرب ماءها، فلعلّها تشفي المغترب من وهم الاستثمار في الوطن. وقد أسرّ لي أحد دهاة المنتفعين في هذه الغوبات – التي تعمي العيون وتكسر السنون وتحطّم القلوب – بأنه وجماعته ينتظرون موسم إجازة المغتربين – وهم على دراية بأن وقتهم محدد بإجازاتهم وأعمالهم تنتظرهم – فيحرصون جانباً على جانب ممن بينهم الأحن القديمة ثم يتوزعون الأدوار مع هذا وذاك بأخذ دور النيابة المدعية والمحامي الناقض وهات يا مصاريف وباقات ويا عزائم والأمل ينبعث هنا وينطفئ هناك ثم لا يلبث أن يتحول بقدرة قادر، فإذا المتيقن من النجاح قد تحول إلى يائس، وإذا اليأس يطير فرحاً، وكل ذلك بالكلام والورق، وإيش أسوي بالورق، إلى أن تنقضى الإجازة، فيعلق الأمر إلى العام القادم، والإجازة القادمة، ويا غافل لك الله. وطبعاً هذا اللعب على مستوى الصغار، وفي الأرياف وأشناف الجبال، أما لعب المحترفين فغير شكل، فاللعب هنا يجري على مستوى كأس العالم، أو اليورو أو الأولمبياد، فالغنائم أعظم، والحبكات أدهى، والتسلية عند أهل الريف قد تتحول إلى سفك الدماء في غنائم المدن. وقد تتساءل عن دور الدولة – التي يفترض أن شوكة الميزان في يدها – فتكتشف أنها كالموجود المعدوم، أو النائم الذي يحلم ويظن أنه في اليقظة، فيقتل مائة هنا ويسبي ألفاً هناك، ثم يستيقظ وهو على الفراش، والأمور على حالها وكما تركها قبل المنام، والله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم.

ولأن الأمور مترابطة، تشدّها عرى وثيقة لا انفصام لها، أي أن النهب والسلب إذا ساد وتمادى أصبح قانوناً يحكم السوق ومصالح العباد، وكذلك العدالة إذا تسلحت بالحق والشجاعة والتنفيذ الصارم للقانون بدون النظر إلى زيد أو عبيد، أصبحت هي القائدة والسائدة، ولذلك – وفي ظل عقلية السلب والنهب – فإن الدولة نفسها تسرق، والتاجر يجور عليه من أتجر، والوجيه من هو أوجه… وحتى الأخ يسرق أخاه، أما سرقة الصديق للصديق فحدث ولا حرج، وكان الله في عون الاستثمار.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s