لم ترصد البشرية المعاصرة من هو أسرع من حركة من السلحفاة الشهيرة سوى مجلس الشيوخ الأمريكي الموقر – سيد قراره – على رأي عُتاة القانونيين، فقد وافق المجلس أمس الأول على شطب نلسون مانديلا من قائمة الإرهابيين، ويبدو أن المناضل الأفريقي المنبت، العالمي الأفق، الإنساني النزعة سيعتبـِر هذا القرار – الذي سيدخل موسوعة جينيس كأغبى قرار في القرن الواحد والعشرين – بمثابة هدية تافهة لا تقدر بثمن بخس في عيد ميلاده التسعين، ذلك أنه لم يكن يغمض له جفن بانتظار هذه المكرمة الإمبريالية التي طال مطالها، لأن الذين “اختشوا ماتوا”، وما كان مانديلا بقامته التاريخية ليشتري مثل هذا الهذر بشعرة من رأسه الأشيب المُهاب، لقد رفع البيت الأبيض كوريا الشمالية من قائمة الداعمين للإرهاب فور إعلانها عن برامجها النووية، ذلك أن السياسة الأمريكية لا تفهم سوى لغة الصاع بالصاع، وسلم واستلم، وهو ما لم يفهمه العرب الذين يقدمون التنازلات تلو التنازلات دون الحصول على أي مقابل سوى المزيد من العصي على أقفيتهم المدماة، وبطون أقدامهم المهترئة، على طريقة (الفلكة) في الكتاتيب القديمة وفقهاء المعلامة، ولا شك “أن المرء حيث يضع نفسه”، فالأمور كما قال أبو الطيب المتنبي:
من يهن يسهل الهوان عليه=ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ
لو كان مانديلا – الذي لم يعر أعتى نظام فصل عنصري اهتماماً – يولي مجلس الشيوخ الأمريكي أي اهتمام لما مضى في طريقه النضالي استئناساً بقول الشاعر العربي أو توافقاً معه:
عليّ نحت القوافي من معادنها=وما عليّ إذا لم تفهم البقرُ
وفي رأي ذلك الحشد المهيب في لندن “ما غيرها”، وفي “الهايد بارك” ما غيره للإحتفال بعيد ميلاد مانديلا التسعين، لعرف وهو مغمض العينين في أي مزبلة من مزابل التاريخ يوضع قرار مجلس الشيوخ الأمريكي. وقد كان ممثلون للشعب الأمريكي – من الأحرار الذين ورثوا التاريخ المضيء لأسلافهم – في مقدمة المحتفلين، وهم بذلك عبّروا ويعبّرون عن الضمير الحي للشعوب الحية الذي جمع خمسين ألفاً في احتفال تتمنى الملكة إليزابيث الثانية أن يحشد لها مثله في عيد ميلادها، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه.
إن فضيحة مجلس الشيوخ المتلبسة ثوب القانون تطرح أسئلة لها أول وليس لها آخر: كم من القرارات في أضابير الشيوخ تشبه هذا القرار الذي لا تغطي عورته حتى ورقة توت؟ كم من شعوب ومناضلين يدفعون ثمن سياسات حمقاء ومغرضة تستخدم آلة حرب جهنمية وقوة المال الممثل بالدولار الذي أخذ يتهاوى كبيت العنكبوت مما يذكرنا بالتعديل الذي أدخله بدر شاكر السياب على بيت أبي العلاء المعري الشهير والذي أصبح بعد التعديل:
والذي حارت البرية فيه=حيوان مدجج بالنقود
لقد أخذت مجلس الشيوخ العزّة بالإثم حتى وجد نفسه بعد ربع قرن مكشوفاً مفضوحاً، وأضحوكة أمام التاريخ والمؤرخين، ولذلك أصدر القرار في زحمة احتفال العالم بعيد المناضل الجسور الذي لم يتخلّ عن كفاحه كرمز للسلام والإخاء الإنساني، فلا نامت أعين الجبناء، وعقبى لكوبا وكاسترو الذين تطوقهم قرارات ظالمة من هذا النوع الغبي.