المعدمون شبعوا جوعاً والحمد لله الذي لا يُحمد على مكروهٍ سواه، وقد تناست الدول العظيمة الفخيمة المُتخمة اللئيمة تلك الجبلة المدوية التي أحاطت بقمة الغذاء العالمية الثانية في روما مطلع الشهر الجاري، والتي شهدها زعماء 45 دولة و 1700 صحفي تنادوا على عجل ثم انصرفوا، وكل قومٍ بما لديهم فرحون، فالأثرياء هرعوا إلى الموائد التي تحوي كل ما لذّ وطاب، والفقراء عادوا إلى موائد الذباب الذي كان ينبغي أن يتواجد على الضفة الأخرى، ضفة “فتّي رشّي”، ولكن الأسوار العالية والمبيدات الغالية أرغمته على مشاركة الفقراء أرزاقهم، لأنهم أعجز من أن يمنعوه، وأحن من أن يحرموه وهو من مخلوقات الله تعالى التي لها نصيب من الأرزاق، كأنما الفقراء الذين يربطون الأحجار يقولون له إما أن نموت معاً أو نعيش معاً.
من المفارقات المضحكة المبكية – وشرّ البلية ما يضحك – أن القمة الأولى التي عقدت في روما أيضاً عام 1996م بتنظيم من منظمة الفاو بحضور أكثر من مائة رئيس كانت قد وعدت البشرية المعذبة والملوعة بالجوع بإنقاص عدد الجوعى آنذاك، والذين قدروا بـ 850 مليون شخص إلى النصف، ويا فرحة ما تمت، فقد أصبح العدد الآن بعد مرور 12 عاماً عجافاً 950 مليوناً، وقد قلصت الدول المانحة عطاياها فعلياً بدل أن تزيدها، وإذا قسنا اليوم على البارحة فهل نتوقع إنقلاباً في هذه الجلبة الخبيثة التي أدمنت النفاق، وألفت التسويف، لأنها في أعماقها تتمنى زوال أصحاب الأفواه الجائعة، ولا ترى نفسها مسؤولة عن معاناتهم، فالعالم في نظرها ينبغي أن يقتصر على الأثرياء الأذكياء الذين ينطبق عليهم المثل الأمريكي “إذا كنت ذكياً فلماذا لست غنياً؟”. وما لنا نذهب بعيداً ولا ننظر في دواخلنا، فمترفونا أيضاً على شاكلة مترفي العالم، وهم يعتنقون مضمون المثل اليمني “من حصل العافية دق بها صدره” ، لذلك فإن الإعتماد على النداءات الأخلاقية واسترحامات العجزة ولغة الدموع غير مُجدية و “شغل عبط”، ما لم تتدخل الدول على جميع الخطوط لتشجيع الإستثمار الزراعي، ورفع إنتاجية الأرض، وضبط الأسعار وفق ميزان عادل، ودعم الفقراء، واستغلال الموارد المهدرة المضيعة كثروات البحار، إضافة إلى ترشيد كلما يتصل بالزراعة والغذاء، وخاصة المحروقات وأسعارها، وبدلاً من البكاء على اللبن المسكوب ينبغي النظر إلى نصف الكأس الممتلئ من هذه الأزمة، مستعيدين الحكمة التليدة التي بليت من الكلام ولم تستطعم العمل بها والقائلة: “ويل لشعب لا يأكل مما يزرع، ولا يلبس مما يصنع”، نعم… ويل وأي ويل، وسلال الغذاء التي طالما تحدثنا عنها بين الماء والماء قد تبخرت وأصبحت بحاجة لمن يملأها من خارجها، ولنتأمل حال السودان الموعود بسمن وعسل الإستثمار الزراعي من فوائض البترول التي حار أصحابها في توظيفها، وأخشى أن ننام في العسل بضع سنوات أخرى لنستيقظ على أكذوبة من أكاذب العرب الذين يقولون ما لا يفعلون {كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}.
وحتى إشعار آخر، على كل إنسان ممن يعضهم الفقر بأنيابه السامة أن يحفر الأرض تحت قدميه لإنبات شجرة مثمرة، أو تكون قبراً له ولعياله، وعلى من يحبون اللون الأزرق تعلم كيفية اقتحام الأمواج، واصطياد أرزاقهم من مزرعة الله العظمى، ذلك أن من يعطيهم اليوم سمكة لن يعطيهم غداً وفق الحكمة القائلة: “بدلاً من أن تمنحه سمكة علمه كيف يصطاد السمك”. كما أتمنى أن تتولى الجمعيات أو جماعات أو أفراد اجتذاب الشبان العاطلين على أرصفة المدن إلى البحر ليتعلموا الإبحار والصيد لسد الرمق، وأن يتعلم أبناء المدارس – المثقلون بأحمال الكتب المليئة بمعارف ميتة – كيف يزرعون شجرة ويثمرونها وينتظرون أكلها في الموسم. إن للجوع طريقاً واحدة، وللشبع ألف طريق لو كانوا يعلمون.