القلب هو بالفعل “ذلك المجهول” الذي يمكن توصيفه كمضخة للدم يزوّد الجسم بالغذاء، ولكن دون سبر أغواره، ومعرفة أسراره، وتسلق أسواره. يقف أولوا العلم حائرين مبهورين، يزدادون جهلاً كلما ازدادوا علماً، فمابالك بالمغامرين الذين يخبطون خبط عشواء، يتخذون من أقدس المهن – وهي الطب – وسيلة للتربّح والثراء، وما أكثر هؤلاء في الدول النامية، حيث تطاردك الإعلانات المتنافسة بالوصفات الجاهزة التي تعدك بشراء صحتك وعمرك المديد خلال دقائق معدودة، تخرج بعدها تركض كالحصان لا تبالي الهامة والفيافي، وهم في إعلاناتهم تلك – غير المراقبة من السلطات المحلية – يتبعون القواعد التي يتبعها باعة الأحذية وموزعو الأدوية المغشوشة، وتلك المحلات التي تبيع كل شيء بسعر مائة ريال مع الإعتذار للفنان رشيد الحربي الذي كان سباقاً بلافتته المشهورة في أحد شوارع صنعاء “ادفع مائة واسمع أغنية”، فقد كان يبيع سلعة غير قابلة للغش، فهي تشبه لبن الأم في مواجهة بعض الألبان المغشوشة في الأسواق… المهم أن هؤلاء يبيعون لك السمك وهو في البحر، لكأن رتق القلب يشبه رتق النعال، ولكنهم لا ينسون أخذ توقيعك على ورقة إبراء ذمة حتى لو لحقك الموت بسبب الأخطاء الطبية أو المضاعفات غير المرئية، وأنت لست مخيراً في التوقيع، فما عليك سوى إغماض عينينك والبصم، ولو كانت الجراحة لظفر إصبعك.
وما أكثر المآسي التي تملأ مجلدات ومجلدات فيما لو تم تسجيلها ونشرها، ولكن أكثرية الناس لا يهتمون، وعلى الله يتوكلون، وإذا أصيبوا يغفرون، لعل المولى يجعل ذلك في موازين حسناتهم. ونحن هنا لا نقول أن الطب كالنجارة، إحكام مسمار ومسح فاره، فحيث يوجد المشرط يوجد الخطر، ولكن لا بد من وجود ضوابط ورقابة وحساب وعقاب، وإلا أصبحت الأمور “سداح مداح”، يتساوى فيها الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ونحن نعرف أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من الأسواق، وقس على ذلك، فالنصاب وسارق المهنة ورديء التأهيل يصطاد الزبون بالكلام المعسول، والوعود الزائفة، أما المتمكن العالم التقي فإنه يبين لمريضه مختلف الإحتمالات غير غافل عن المجهول، ولا متلاعب بالعقول. ولقد توصل الألمان – ضمن المنهج الإحصائي الذي يقود ركب العلم الحديث – إلى فتح سجلات للعيادات لتحديد النجاح والفشل رقمياً، ومن ثم تصنيف تلك العيادات تصنيف الفنادق، فمنها من تحمل النجوم السبع، ومنها ما ترصّعه النجمة الواحدة، ومنها ما يُرمى إلى سلة المهملات غير مأسوفٍ عليه، لأن عليه إغلاق أبوابه بالضبة والمفتاح، فحياة الناس ليست مجالاً للإستباحات، والعيادات المحترمة ليست محلاً لتعليق الشهادات دون نتائج طبية محققة تؤكد الجودة.
بالأمس خابرني صديقي الأستاذ عبدالله سنبل المسؤول المالي والإداري لسفارتنا في أبوظبي، والذي ذهب برفقة عائلته والشغالة لقضاء إجازة قصيرة في بلاد الشام، وقد توقف قليلاً حيث يقصد اليمنيون للعلاج لإجراء بعض الفحوصات، وقد طلب من العيادة فحص الشغالة أيضاً لأنها كانت تشكو من بعض الأعراض، فقيل له أنها بحاجة إلى قسطرة بالون، والعملية لن تستغرق سوى بعض الوقت، وتأخذونها معكم لمواصلة رحلتكم برعاية الله، وكان أن تحوّلت القسطرة إلى كرة ثلج، كلما تدحرجت كبرت، فقد أعقبتها عملية جراحية في القلب لعدة ساعات، استلزمت غرفة الإنعاش لعدة أيام، والحبل على الجرار، فلا الإجازة عادت إجازة، ولا الميزانية المرصودة أصبحت تفي بالتكاليف، وإذا كان النقود (المصاري) تأتي وتذهب، فإن الصحة لا تعوّض ولا تقدر بثمن، وقد قلت له: “أرجوك يا عبدالله لا تذكّر الحزينة البكاء، فقبل عشر سنوات كنت في رحلة مماثلة بالسيارة في طريقي إلى الشام، وكنت قد تواصلت مع طبيب نال شهرة “تلفزيونية” لإجراء فحص لأم العيال، وعقب استلامه للفحوص هاتفني قائلاً إن العملية من أبسط ما يكون، وللا تتجاوز أخذ خزعة في دقائق، ثم علينا مواصلة طريقنا إلى شواطئ المتوسط، وكان أن توكل – لا أدري على من – بعد أن وقعنا على الورقة المومأ إليها، وفيما نحن ننتظر خارج غرفة العمليات على نار، خرجت السيدة مشلولة مغمورة في دمائها، فيما خرج هو متسسلاً لينام قرير العين، وفي اليوم الثاني جاءني يطلب أجرته قائلاً إن ما جرى قضاء وقدر، كان يمكن أن يحدث في الشارع، أما ملاك المستشفى فتبرأوا من عمله قائلين أنهم يريدون أجورهم، فما هم سوى فندق للإيجار والأطباء لا يتبعونهم.
ولن أثقل على القراء ببقية الرواية الماراثونية، فما أنسانيه الزمن ذكرني به عبدالله سنبل، والدعاء إلى الله تعالى بأن يأخذ بأيدي جميع المرضى وأن يشملهم برحمته.