قدرات الإنسان على التكيّف مع الظروف المستجدة – أكانت صحية أم اجتماعية أم اقتصادية – تعد من أسرار الحيارة الكبرى المعجزة، والنعم العظيمة المؤنسة، والتي لا يدركها أكثر الناس، فهم يعيشون في فزعٍ دائم، خوفاً من فزع محتمل لو جاء حقاً لأهداهم السكينة، ولكشف لهم عن قوى يمتلكونها لم تكن لتخطر لهم على بال..
ومثلهم في ذلك مثل الذي عيش في فقرٍ مدقع، خوفاً من فقرٍ محتمل، لو جاء لكان البساط بينهما “أحمدي” كما يقال في الموروث الشعبي، فالإنسان مثله – في الكشف الإلهي الرحب – مثل الطيور التي تغدو خماصاً وتروح إلى أعشاشها بطانا… فرزقها كفاف يومها، ولو كان من القليل ولكنه دائم، علماً أنه لا قيمة حقيقية لأي شيء إلا بمعاناة نقيضه، فالصحة التي هي تاجٌ على رؤوس الأصحاء لا يراها إلا المرضى، وقل مثل ذلك عن المال والبنين والمعرفة والتأهيل والأصلالة والتأصيل، ذلك أن النجوم الزواهر في الحياة الخاطفة لا تنير اعتباطاً ولا تأتي من فراغ، والحقيقة الكبرى التي تنتظمها هي قانون الأفول الذي عبر عنه حكيم المعرة:
غير مجدٍ في ملتي وسواء صوت النعي إذا سر إن استطعت في الهواء رويداً رب لحد قد صار لحداً مراراً صاح هذي قبورنا تملأ الأرض |
واعتقادينوح باكٍ ولا ترنّم قيس بصوت البشير في كل ناد لا اختيالاً على رفات العباد ضاحكاً من تزاحم الأضداد فأين القبور من عهد عاد |
شادي
في ظل قانون الأفول هذا، لا معنى للبكاء على أي شيء، وقد أُمطرت هذه الأيام برسائل تلفونية، و”مسجاتٍ” لا تنقطع من الفنان رشيد الحريبي في صنعاء يبكي أو بالأصح يعول على “جراية” كانت قد منحت له ثم قطعت، وقد أردت أن أذكره بقانون الأفول لكي يعبر برزخه هذا بسلام، ولكنني تذكرت أن الجائع لا يحلم إلا برغيف الخبز، وكانت آخر رسائله مساء أمس الأول يقول فيها: “إلى الديدبان: إن الإكثار من النوم ضارٌ بالغشاء المخاطي للمعدة” لم أفهم المقصود، فربما كانت معلومة مما تبثه أجهزة الإعلام على مدار الساعة، وربما كانت إشارة غلى انشغال الفنان الكبير بشؤون المعدة وشجونها، ما يوجب عليّ توجيه نداء إلى من يهمه الأمر لإطلاق ما للرجل من حق مكتسب، فللتكيف حده، كما أن للصبر حدوداً على رأي أم كلثوم… وبالمناسبة فأنا قد عرفت رشيد طفلاً ينعم بالحل والحلل منذ كنا ندرس في قعطبة مطلع خمسينات القرن الماضي، وهو لم يعرف الفقر إلا على كِبر، وهذا من أسباب عدم قدرته على التكيّف النفسي، أما الواقع فهو منغمس فيه إلى أذنيه، ومن رسائله – المتعوب عليها لغة وتعبيراً – اكتشفت تمتعه بثقافة رفيعة، وقدرات تعبيرية عالية غير مستغلة.
ما علينا… فإنما هي الأحاديث تأخذ برقاب بعضها البعض، شأن بعراف القافلة، تُربط إلى بعضها أعناقاً وأذناباً، لتشكل قطاراً ينتظم على الرمال وبين الوهاد.
وما هو أعجب من طاقة التكيّف لدى الإنسان تحوّله الدائم بين الحب والكره، وألفته لما كان ينفر منه في ظنه ووهمه، وقد ذكرني ذلك بقول أبي الطيب:
خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصبا | لفارقت شيبي موجع القلب باكيا |
وقد استشعرت هذه الألفة وأنا أتهيأ لمغادرة المستشفى في برلين، عندما أخذت أنظر من النافذة غلى الغابة الجرداء التي كانت معسكراً إنجليزياً إبان الحرب العالمية، وكنت لا أطيقها، فإذا بها في السويداء من القلب، أما الممرضات – ملائكة الرحمة – فقد أمّحى من خاطري كل وأي عتب… ولم تبعد سوى تلك الوجه الصبيحة والإبتسامات الرضية التي وثقها “الديدبان” في ألبوماته، نعم لقد كنت موجع القلب باكيا، وأنا أتهيأ للرحيل عقب خمسين يوماً على السرير الأبيض، وحين تلفنت لسفيرنا الخلوق الدكتور محمد لطفي الأرياني لأودعه، أردت أن أوصيه خيراً ببرلين، وكل من حل في ربوع برلين، ولكن العارف لا يعرّف، فالرجل قد غمرني بلطفه وإطلالته البهية، رغم مشاغله وتنقلاته الدائمة بين برلين وفرانكفورت… جادك الغيث إذا الغيث همى… يا برلين.
رحمك الله تعالي يا أبي الطيب، وجعل آلامك أجراً عظيماً لك، وعافية من الذنوب.
آمين….