الراية البيضاء

أراني أطلت حول رحلتي العلاجية الألمانية برفقة الديدبان علي صالح محمد، الذي لم يظهر حتى الآن أية ردود أفعال متوقعة، وربما غير متوقعة، وذلك من حقه في عالم الرأي والرأي الآخر، و”دع ألف زهرة وزهرة تتفتح”، وقد علمت فيما علمت أنه هرع إلى لطافة مناخ الجبال اليافعية هرباً من حرّ عدن، وطلباً للسكينة بين أحضان الطبيعة التي كان يقول لي دائماً أنها منتجعه الأثير حين تضيق به الحياة أو يضيق بها. وقبل أن تضيق شظايا هذا الرفيق أقول صادقاً أنه أسدى إليّ أيادي كثيرة بيضاء، ويكفي أنه الوحيد من بين الأصحاب الذي تطوّع لمرافقتي دون أن أسأله، ودون أن يسألني جزاءً ولا شكوراً:
ما أكثر الأصحاب حين تعدّهم=ولكنهم في النائبات قليل
أما حكايات السفر فهي ملح المجالس وبهارات الحدث، وهي أنجع ما في صيدلية المريض، وأجمل ما يتزين به القريض، وقد أشرت أمس إلى فقدان محفظتي بعد أن صانها الديدبان طويلاً، وكنت أظنه سيفزع لهذه النائبة ويواسيني لهذه المأساة اللاهبة، ولكنني وجدته في غاية السرور، يكاد يطير من الفرح والحبور، وهو يشير إلى الفرق فيما بيني وبينه، وكيف أنني حين استودعته نقودي إنما استودعت القويّ الأمين، وقد ظل – سامحه الله – على هذا المنوال يردد نفس الموال، حتى ظننت أنه هو ولا أحد غيره من دبّر ضياع محفظتي لكي يُسمعني دروسه المشتهاة، ثم يعيد إليّ الفرحة في لفتة كريمة قبل شد الحقائب لأتمكّن من شراء بعض الهدايا للصغار، ولكن صبري طال حتى خامرني اليأس، فتذكرت قول الشاعر القديم: “ولن ترى طارداً للحرّ كاليأس”، وهنا كشّرت له عن أنيابي، فقلت له: “أتتشفى بمصيبتي يا (دبدوب)، ألا ترى أنني كنت حاذقاً وبعيد النظر حين فصلت بطاقة (الفيزا كارد) عن النقود، والآن فإن باستطاعتي تدبير ما أحتاجه…”، ويبدو أنه شعر بتجاوزاته التي لم يراع فيها حالتي المرضية، فاعتذر بكلام ماسخ، فقد كان بقي في جعبته الكثير ليردده على انتقاداتي السابقة له، ذلك أن صاحبي له ذاكرة جمل، وثورتي قطعت عليه حبل المواصلة لمسرحية المحفظة المملة، ومع ذلك وبعد مرور أشهر مدبدبة على هذا الحدث الجلل – من وجهة نظره – فإنه كلما اتصل بي أو اتصلت به في اليمن لا ينسى التعريج على ما جرى ولو بالقول: “قل لي يا صاحبي، هل اتصل بك أحدٌ من ألمانيا بشأن المحفظة؟ تراها بلاد ما يضيع فيها شيء، خاصة إذا كنت قد أودعت رقم تلفونك وعنوانك في المحفظة”. فأقول له بامتعاض: “إن شاء الله، وما من أمر على الله تعالى ببعيد”، وحين فاض الكيل بي قلت له في إحدى المكالمات بصوت مليء بالفرح: “تصوّر يا بو علوه، لقد استجاب الله لدعائك، وبالأمس جرى الاتصال المتنظر من برلين، لقد وجدت المحفظة، وهي في الطريق إلى صاحبها الذي هو أنا”. بهت لعلمه أنه لا يوجد عنوان ولا رقم تلفون، ولكنني قلت له إن من الصدف العجيبة أن أحد أولادي قد تحوّط لمثل هذا الظرف، فأودع رقم التلفون والعنوان في الجيب السرّي للمحفظة، ولا شك أن الألمان الطيبين قد عانوا حتى حصلوا عليه، وهنا أسقط في يدب الدبدوب “الديدبان”، فلم يعد إلى حكاية ضياع المحفظة، وشعرت أنني قد سجلت عليه نقطة انتصار وجب معها أن يرفع الراية البيضاء.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s