أشعل شمعة

ما من مهنة تخلو من الحيل ومن التحايل، فالبائع الذي يخاف على المستهدف من إعلانه نفاد البضاعة ويستعجله للشراء قبل أن يندم إنما يحتال عليه نفسياً، فلو كانت بضاعةً رائجة كما يُعلن لما دفع من حرّ وخالص نقوده ثمن الإعلان، وكذلك البائع اذي يستأنس في زبونه شيئاً من التديّن، فيقسم بالإيمان المغلظة أن السعر الذي أعطاه إياه أقل مما دفع له من عميلٍ ترك المحل للتو، ولكنه توسم في (المغفّل) السماحة التي تشع من وجهه نوراً فتنازل له عن رزقه الحلال، ويرتاح صاحبنا لهذه الدغدغة، فيقسم هو الآخر لأهل بيته أنه أخذها بأقل من التكلفة، ولا يدري المسكين أنه حانث في يمينه وقد وجبت عليه الكفارة، وقـلّ أن تجد ذا صدق في عالم المهن، ومع ذلك يصفه الناس بالتشدد لإنه راعى الله تعالى والضمير فيهم، ولكن هذا الصنف النادر له ممن شاكله من يمحضونه الثقة ويشترون منه دون سؤال، إضافة إلى أن البركة تحل معه حيثما حل. وفي عالم الطب حدّث ولا حرج، فأنت قد تتحفظ “من الحفظ اصم” أعراض مرضك، ثم تكتبها في ورقة، لأن الطبيب قد يمر خطفاً، وقد يلجمك لأنه يتحدث ويتحدث ولا يترك لك أو لأحدٍ غيرك مساحة، ولأن الذين حواليه يؤمنون على كل حرف، فلا تريد أن تبدو الأبله الوحيد في هذه الزفة التي غالباً ما تكون في الصباح بعد أن يفطر القوم ويشربوا الشاي، فهم يأتون إليك أنت المسكين الذي لم تنم الليل إلا لمما، وهم في غاية اللياقة، أي في (الفورمة) كما يقول الرياضيون.
ما علينا إن تنطق، وقد تصبب العرق منك خجلاً ورهبة، فيما الطبيب يتشاغل بالحديث إلى الممرضة، وتوجيه بعض الأسئلة إليها حتى تشعر أنه لم يسمع حرفاً مما قلت، ثم تفاجأ بأنه يقول لك أن كل هذه الأعراض طبيعية، والزمن كفيل بها، ثم يضحك ملء شدقيه، وهو يضيف: “ظننت أنك تشكو أمراً جدياً، أما هذه… إيش أقول لك؟ لو لم تشتك منها لظننت أنك تكتم عني ما تعانيه…” يعني حضرته يحس بآلامك دون أن تشكو… طيب! والعلاج؟ يأمر لك بحبني (بانادول)، وما أن يغادر حتى تبدأ بالعواء، فتستدعي الممرضة فتقول لك “ألم يكن الطبيب عندك؟!”.
وبصراحة، الأطباء أناسٌ مثلنا، يعني ليسوا معصومين، وعلينا أن نتعامل معهم بهذا البعد، فنستفسر أكثر، ونعرِض معاناتنا أوضح، ولا نسمح لأي مراجعة بأن تكون مناقرة معرفية بين الطبيب والمريض، ففي مثل هذه الحالة تكون اليد العليا للحكيم، ويكفي أن يسكتك بقوله: “يا أخي… أنت تريد تعلمني شغلي!”، أما عن الأدوية فلا تسأل عن الخبر (النبيث) كما يقول (أبو العلاء)، فعادةً ما يسلك الأطباء الطرق السالكة التي خبروها أو الموصوفة في المراجع التي تعلوها الأتربة عند الكثيرين، فيما الطب يتطوّر على مدار الساعة، ولذلك يجأر المرضى بالشكوى حينما يذهبون إلى الخارج، فيرمى بكل أدويتهم الوطنية في القمامة، قائلين لهم: “من صرف لكم هذه الأدوية؟” وبلاش نكمّل، ومع ذلك – حتى لا نزرع الغلط ونتركه ينمو بدون حساب – فإن لدينا من الأطباء من يتفوقون على نظرائهم في الخارج، ومن هم في المستوى،ولكن أهل الحرام لم يتركوا لأهل الحلال شيئاً، ولأن نشعل شمعة خيرٌ من أن نلعن الظلام.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s