في غرفتي بالمستشفى ألتقي صديقين لدودين من فصيلة الأعدقاء – وهي كلمة مركبة من الأصدقاء الأعداء – .. والذين ينطبق عليهم قول المتنبي :
ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى
عدو له ما من صداقته بد
ولأن أغلب الناس يعيشون في الماضي ويذهلون عن الحاضر ، أما المستقبل ففي علم الله (شرم برم) فإن هذين الزائرين اللذين ظللت على مسافة واحدة منهما ، أخذا في تبادل النظرات الإتهامية واستعادة اللياقة للطراد الذي استعر بينهما في الثمانينات من القرن الماضي ، وقد ذهب كل منهما في سبيله ولم يريا بعضهما منذ ربع قرن ، ولكن مافي النفوس ظل كما هو مع الأسف. وكما هو حال الطلبة اليمنيين في زمن ساد ثم باد فإن السياسة هي محور الخلافات المزمنة ، علما أن الأيام أثبتت ان ما يسمى بالسياسة كانت قبض الريح وباطل الأباطيل ، وأن هي إلا وحي يوحى ، ضمن الاصطفافات الدولية التي ترفع شعارات ( من ليس معنا فهو ضدنا) .. سألت صاحبي: ماذا عدا عما بدا؟ قال : كان معنا وقدمنا له منحة ، بل أزيدك من الشعر بيت ، فقد زوجناه أيضا ، فهل هناك منة أكبر من هذه ؟ قلت ثم ماذا ؟ قال فجأة أسبغ لحيته وذهب مع الآخرين ، وغرر بالبنت المسكينة فهربا سويا من الشرق إلى الغرب .. طيب يا أخي خلاص ذهبا في حال سبيلهما ولا تثريب عليهما ، قال : أنت ساذج في علم السياسة .. ذلك أن نجاح هذا شجع غيره ، وقد كرت المسبحة ، قلت ولكنك الآن شخصيا خارج على هذه الهلما التاريخية ، أبتسم وهو يقول : ولكن لي ثأر عند هذا الزئبق . طبعا كانا يجاملان بعضهما من طرف اللسان :
يعطيك من طرف اللسان حلاوة
ويروغ منك كما يروغ الثعلب
ولكنهما يتطاردان في الخيال ، رغم إنعدام المعنى وتبدل الزمان الذي بلغ من سخريته أن الأصدقاء يتبادلون مواقعهم . وقد ضحكت حتى كدت أسقط من سريري واشرق بلعابي عندما ذهب أحدهما إلى حمام الغرفة ، ثم أطلق السيفون مرات عدة فيما يشبه إطلاق المدفعية الثقيلة ، ذلك أن الأدوات الصحية الألمانية تمتاز بالقوة الهائلة التي تعبر عن نفسها وجودتها بهدير يشبه هزيم الرعد ، وقد أرهف الطرف الثاني سمعه كحمار وحشي يشتم رائحة أسد في الغابة ، وهو يستمع إلى تلك الضربات المدوية تأتي من ناحية الحمام ، وكأن من الواضح أن دماغه يجري عمليات معقدة للترجمة واستخلاص المعنى ، وما أن عاد الغائب من حمام الهنا حتى أندفع صاحبنا ليحل محله ، وفجأة بدأت إطلاقات المدفعية ، وكلها بحثا عن السر حيث لا يوجد سر ، مما ذكرني بـ( ارسين لوبين) وشاركوك هولمز مع الفارق في الحبكة ، وقد قلت لنفسي وانا ابتسم : لو تفرغ هؤلاء لكتابة المسرحيات الكوميدية لكان المسرح اليمني في الصدارة عربيا ، أنهم يؤدون أدوارا على خشبات الواقع يعجز عنها المحترفون على خشبات المسرح .. وقد تذكرت صديقنا صالح الحارثي البيضاني الذي تساءل ببراءة في إحدى الجمهوريات السوفيتية النائية في القرن الماضي : لماذا يغزو السوفييت عاصمة التشيك (براغ) وهي لم تقم بغزوهم فوصل أمره وكلامه إلى موسكو وربما إلى الكرملين ، حتى داخ السبع دوخات فلم يسمح له بأداء امتحاناته وهو المارق وظل يتنقل من مكان إلى مكان واللعنة تطارده حتى قاده قدره الى برلين الغربية فاستقر بها ، وهو اليوم في سفارتنا من خيرة من يساعدون القادمين من الوطن بلغته المتمكنة ومعرفته المتشعبة وبروحه الطيبة التي خبرت الحلو والمر فاختارت المنزلة بين المنزلتين ، وقد زارني في أحد الأيام بصحبة الأستاذ أحمد حجر القائم بالأعمال ، بابتسامته العريضة حيث أشار إلى صدره قائلا : لقد أجريت عملية القلب المفتوح قبلك وأنا اليوم كالحصان أجري والعب الكرة .. الله ينورك يابن حجر ، فكما هو شعار الدفاع المدني « السلامة أولا ، فإن شعار المرضى» المعنويات أولا .