الأوطان العربية والإسلامية بدون شك طاردة للسكان عموما، ولأولئك الذين لديهم من المعرفة والخبرة والانتباه الحضاري، ما يمكنهم من العيش في أوطان أخرى حيث يتجرعون مرارة الاغتراب ولكنه أحلى في أفواههم من الشهد على طريقة “إيش الذي جابك على المر، قال الذي أمر منه” وما أكثر الذي أمر منه ما بين الماء والماء، أي بين المحيط الهادر والخليج الثائر: “إن هي إلا اسماء سميتموها أنتم وآباؤكم”، وفي برلين وفرة من هؤلاء وهؤلاء، من الذين وفدوا ليتجرعوا المر الحالي، والذين يعبرون ليمتعوا بروح باستشفاف أوطان تنعم بقدر من الأمن والأمان مشهود، ولنفس الرفاهية والرعاية والقدرة على رؤية المستقبل حتى تخوم الشيخوخة والفناء، فالذي لا يطمئن حتى إلى غده يسعده أن يرى غد الآخرين، لعل وعسى، ومثله في ذلك مثل الذي يشاهد مباريات يورو 2008م فينفعل ويتفاعل ويلعب في خياله مسجلا الأهداف، وحاصدا الإعجاب، حتى إذا انتهت المباراة واشتغل النكد أخلد إلى قوقعته بانتظار مباراة جديدة، حتى ظهرت عليه علامات الإدمان لعالم مواز غير عالمه الفعلي.. ألم أقل لكم إن الهروب من مشنقة إلى مشنقة فرج.
ما علينا.. فبالنسبة لي كان التلفزيون رفيقي الحقيقي في الليالي الطويلة، ونظرا لغياب القنوات العربية فقد حلت القنوات الناطقة بالتركية بدلا منها، وكان الغياب العربي بشرى طيبة، فما حاجتي إلى قنوات التهريج أو قنوات الدم الثقيل التي تسبح ليل نهار بحمد الحكام، ويبدو أن القنوات التركية أكثرها خاصة؛ وأجمل ما فيها لمن لا يعرف اللغة الغناء التركي الشرقي الشجي “أمان.. أمان”.
إن تركيا المأخوذة بالغرب الذي يريدها استراتيجيا ولا يريدها إنسانيا، إنما “تفكر في اللي ناسيها، وتنسى اللي فاكرها” وعموماً فإنها مهما أوغلت في طريقة الندامة لن تستطيع الخروج من جلدها، فهويتها الثقافية الإسلامية تتجلى عبر مظاهر شتى يوما بعد يوم، وغدا يتعب العسكر والاتاركيون والإسلاميون ليشكلوا معا حزب “لبن، سمك، تمر هندي”.
كانت إحدى الممرضات روسية من أم المانية وخطيبها من المغرب العربي، وكنت أمازحها بما معناه “إيش جاب الشامي على المغربي” وقد كانت تبرطم في البداية لا أدري إن كان ذلك بسبب رفضها للمعنى، أم بسبب ترجمة الديدبان الذي شبهته بالأب الذي أرسله ابنه ليخطب له، فلما رأى الفتاة قبل المفاتحة خطبها لنفسه، وقد برر فعلته لابنه بتخريج ساذج، يا إبني لقد تعبت لإقناعها وإقناع أهلها بالقبول بي، ولو عرضت عليهم رغبتك لكانوا رفضوك حتما، انا أبوك يا وليد وسعادتي من سعادتك”.. على كل حال “إن بعض الظن إثم، وكنت قد أخذت بخاطر التركية العجوز التي تدير بقالة لها باب المستشفى وآخر على الشارع وأظنها في منتصف السبعينات من العمر، فإذا برفيقي الديدبان يبرطم، وهو يقول لي: إلزم حدودك يا ابن النقيب، وكم أتمنى من الله أن ألزم حدودي إلا في ذلك اليوم.. عجايب.