مهنة التمريض يُمكن تصنيفها من بين الأمانات التي أَبَتْ السماوات والأرض أن يحملنها وحملها الإنسان، ذلك أنَّ المريض المُسيَّج بالقلق ما ظهر منه وما خفي، والمُهدَّد بضعف المناعة، والمُترنِّح بين الضُّعف والتحامل على نفسه، بحاجةٍ إلى التمريض حاجة الطفل الرضيع إلى أُمِّه، خاصَّةً في العمليات الكُبرى التي تلد المُضاعفات كما تلد الخسارات المالية الكُبرى الدائنين، فتضيق الأرض بما رحبت بصاحبها وهُو يبحث عن قشَّةٍ يتثبَّت بها في هول اليمّ.
ويبدو لي، بصفةٍ عامَّة، أنَّ هذه المهنة القُدسية قد نزلت عدَّة درجاتٍ عن عرشها السامي في عصرنا بسبب اتِّخاذ الكثيرات – التأنيث راجعٌ إلى الغلبة – منها محطَّةً على طريق البحث عن العمل الأنسب، ثُمَّ لا يلبثن حتَّى يتسرَّبن إلى غير مكان، بعيداً عن الأنين والونين والشكاوى التي لا تنقطع من المرضى وزُوَّارهم وأهلهم، وغالباً ما تنظر المُمرِّضة إلى نفسها على أنَّها مظلومةٌ ومهضومةٌ وقد رماها حظّها التعيس إلى غابة المرضى.
طبعاً هذا تصويرٌ بالمُحصِّلة، وإلاَّ فهُناك من المُمرِّضات مَنْ إذا كُنَّ بلسماً أبرأنَ كُلّ الجراح، ومع ذلك فنحنُ نتحدَّث دائماً عن الوجه الآخر، على أساس أنَّ الإجادة والجودة هي الأمر الطبيعي، ومثلما يُقال إنَّ «الضدَّ يُظهر حُسنه الضدّ»، فكذلك هُو القُبح يُعرف بنقيضه، وقد وعيتُ على نفسي ذات ليلٍ بهيم، فاكتشفتُ أنَّ يديَّ مربوطتان بصُورةٍ مُحكمةٍ إلى السرير، والأُنبوب الذي يُزوِّدني بالأُوكسجين قد التفَّ على رقبتي بصُورةٍ خشيتُ منه أن يخنقني، وكُنتُ بين اليقظة المُغيَّبة والغيبوبة شبه الواعية، بحثتُ عن الجرس، فلم أجده، وأخيراً بعد عناءٍ مريرٍ وطُول انتظار، أطلَّ عليَّ مُمرِّضٌ بعد أن تسلَّل إلى مدخل الغُرفة لإلقاء نظرةٍ عجلى، فصرختُ فيه صرخةً أخافته، فهرع إليَّ وأنا على الوضع الذي وصفت، وقد أعجزتني اللُّغة عن التعبير عن الغضب الساطع الذي اجتاحني، «مَنْ تعلَّم لُغة قومٍ أَمِنَ مكرهم»، وعلى كُلِّ حالٍ قام بفكِّ يديَّ وإرخاء أُنبوب الأُوكسجين على عُنقي، فتنفَّستُ الصعداء وقنعتُ من الغنيمة بالفكاك، وحتَّى اللَّحظة لا أزالُ أتّهم نفسي بأنَّني رُبَّما كُنتُ في كابوس، لكنَّ العلامة على معصمي لم تُبارح، وقد شكوتُ لرفيقي، فكان بين مُصدِّقٍ ومُشكِّك، وقد ذكَّرني بما رأيته في غُرفة العمليات، وحين رأى امتعاضي ذهب وسأل، فقيل له إنَّه في أحوالٍ نادرةٍ حين يكون المريض خارج الوعي تتمُّ حمايته من نفسه، فالمُستشفى لا يُمكنه أن يُخصِّص مُمرِّضةً أو مُمرِّضاً لكُلِّ مريضٍ على مدار (42) ساعةً.
قبلنا وبلعنا التبرير، لكن ما بال جرس الاستدعاء يختفي، فلا أعثرُ له على أثر؟ سألنا المُمرِّض الذي رُوحه في طرف أنفه – كما يقولون – فقال إنَّه يُتابع شُؤون (01) إلى (21) مريضاً، وهُو غير قادرٍ على تحمُّل الاستدعاءات، حيثُ الأجهزة تصرخ دُون توقُّف، لذا يمنح نفسه حُرِّيَّة تقدير أوضاع مرضاه، قُلتُ له بواسطة صاحبي : «اترك الجرس وأعدكَ أنَّني لن أطلبكَ إلاَّ إذا كُنتُ على وشك الموت»، وهكذا كان اتِّفاق «الجنتلمان» بيني وبين صاحبي، حيثُ أصبحنا «سمن على عسل».
صديقي «مُحمَّد عبدالودود» علَّق على المُمرِّض الذي طلب منِّي أن أقول «بليز» قبل طلب الماء الذي أضرَّت قلَّته بكليتي ضرراً بليغاً، فشبَّهه بالمرأة «الواحمة» التي طلبت من زوجها عسلاً في مُنتصف اللَّيل، فخرج إرضاءً لوحوميتها، حيثُ وجد مقتولاً، فقرَّر أن يرى عُمق الطعنة، فوضع خنجره في الجرح مع مجيء العسس، الذين ذهبوا به إلى القاضي، فأمر بإعدامه دُون سُؤالٍ أو مُحاكمة، وقد أُوقف على المشنقة، فرأى زوجته تُشير إليه سائلةً عن العسل، فضحك، فلمَّا سأله القاضي عمَّا يُضحكه، قال : «يا سيِّدي، ما يُضحكني هُو اكتشافي أنَّ عقلكَ وعقلي وعقل زوجتي وعقل (…) – كرَّمكم اللَّه – سواء»، ثُمَّ أفاض في الشرح بما لا تتَّسع له هذه المساحة، لكنَّه – على الأقلِّ – حظي بالعفو وإطلاق سراحه، وَأَجْرٌ وعافيةٌ لكُلِّ المرضى.