أتاك الربيع الطلق..

مرّت عليّ أوقات وأنا على السرير الأبيض شعرت فيها شعور الأرض حين يدهمها فصل الخريف فيجرّد أشجارها من الأوراق ويحيل أخضرها الزاهي إلى لون الموات الأصفر ثم لا يلبث الشتاء حتى يحيلها قاعاً بلقعا كأنها لم تعرف الحياة والعطاء، وكان ذلك أصعب ما مررت به فيما يتصل بالكتابة والإطلال على الناس، وقد أخذت أصرف نفسي عن التفكير في هذا المآل المؤلم كيف يمكن أن تنضب آبار المعرفة وتتصوح الأقلام، وماذا يبقى من الكاتب بعد ذلك سوى ما يبقى من طبل رنان بقره صبي طائش بسكين حاد فمزقه كل ممزق، أصبحت أرهب العلم وأتجنب البياض وأنا أتأمل في الإنسان وفي نفسي والذي قد لا يعلم من بعد علم شيئاً، وقد عادت بي الذاكرة التي تلمع أحياناً لمعان جمرة متوارية في الرماد إلى قراءات قديمة لعلماء وحفاظين كانوا ينسبون امّحاء ذاكرتهم إلى الذنوب، فيقولون على سبيل المثال: وقد بت تلك الليلة فأصبحت وقد حُجب عني القرآن فلا أتذكر آية منه رغم حفظي له كاملاً وإعادة تلاوته في آناء الليل وأطراف النهار، وفي عصرنا فإن الحال يتكرر ولكن التفسير متغير فالذين يصابون بالسكتات الدماغية يفقدون كل أو بعض ذاكرتهم، وقد يستعيدونها بالتدريج والعون من المحيطين، وقد زارني أحد أقربائي فبدا لي كلامه مرتبكاً فقد كان يبحث عن بعض الكلمات ثم يطلب من ولده الواقف إلى جانبه أن يساعده في تذكرها، فيسعفه بما يظن أنه المقصود، وقد سألته عن الأمر فأوضح أن سكتة دماغية لحقت به، وحين نظر في القرآن الكريم لم يستطع قراءة أي شيء، ولم يكن الأمر مقصوراً على غيضان الذاكرة، وإنما تعدى إلى القدرة على القراءة، وأضاف: أخذت الزوجة والأولاد يعلمونني كأي طفل يتهجى الحروف للمرة الأولى، وقد بدأت الآن أقرأ في قصار السور، وحدثني ولده أنه في عز المحنة كان يتكلم لغة أخرى غير العربية، ولم يستطيعوا فهم شيء منها- سبحان الله.. لن أطيل عليكم فكما يأتي الربيع بعد الشتاء فتهتز الأرض وتربو، على حد قول البحتري:

أتاك الربيع الطلق يختالُ ضاحكاً

من الحسن حتى كاد أن يتكلما

شعرت مجدداً أن ربيع الكتابة يدق نوافذ القلب ويرش الذاكرة بماء الحياة المتدفق، وقد كان للأصدقاء الذين لم يكفوا عن التحريض والتشجيع الأثر الكبير وفي مقدمتهم محمد عبدالودود طارش وعبدالرحمن بجاش الذي كتب مقالاً حميماً عن جاره الغائب فشعرت أن من الوفاء للجار العودة إلى الدار، كذلك أحمد الجابري الشاعر الكبير نزيل الراهدة ، ومع أن “خبّازة ما تحب خبّازة” فإن كثيرين من كتاب الأعمدة قد عبروا عن استيحاشهم من غياب عمودي، ولهم جميعاً الشكر والامتنان، في غربة المكان وتجهّم الزمان، كان الشيخ علي محمد سعيد رعاه الله يتصل مشجعاً ومعبراً عن استعداده لأي مطلوب وهو صاحب تجربة في عملية القلب المفتوح، علماً أن الأستاذ أحمد هائل سعيد هو الذي اقترح عليّ المانيا قائلاً: لا تفكر في الذهاب إلى أي مكان آخر، واسأل مجرب ولا تسأل طبيب، كما وقف إلى جانبي الإخوة الأعزاء محمد عمر العيسائي، وصالح أحمد العيسائي وقاسم عبدالرحمن الشرفي وجميعهم من عظام الرقبة كما نقول، ولهؤلاء جميعاً وقبلهم وبعدهم فخامة الأخ الرئيس علي عبدالله صالح الذي أمر بإيفادي وتابع تطورات حالتي، الفضل في شفائي وعودتي إلى الكتابة، في ربيع الذاكرة الجديد.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s