وعينك ماتشوف النور

اغتراب المكان والحيادية الباردة للزمان الذي يمر متباطئاً كليلاً أعمى يبهضان كاهل المريض، فيستوي عنده الليل والنهار خاصة مع عتمة الشتاء في الخارج، فلا جدوى من أن تنظر عبر النافذة، ويحدث في مرّات نادرة غير متوقعة أو منتظرة ان تخترق أشعة شمس واهنة سُجف السحب المتراكمة فيشتعل الفرح في نفسي لكأنما أرسلت خصيصاً من أجلي، وقد قالت لي إحدى الممرضات، وهنّ بالمناسبة خليط أجناس ولغات، إن المرضى القادمين من الشرق الأوسط يصابون بالكآبة من الجو، ويمرضون من نوعية الأكل الذي لم يألفوه، مما يذكرني بالمثل داووا الأجساد بما تعتاد ولكن من أين لك أم في تلك الأصقاع الجليدية تأتيك بالقهوة والعصيد واللحوح مما ألفته في طفولتك، لذلك ليس أمامك سوى البطاطا المهروسة وأنواع من الإدام لها مذاقات غريبة، وبعد ذلك يستغربون لماذا لا تأكل قلت لرفيقي الذي لا يكف عن قرط الثوم خوفاً من البرد وملحقاته: شد حيلك شوي وتوكل على الله لإنجاز طبخة ترد الروح، وقد كان، علماً أن سكنه داخل المستشفى مزود بكل المعدات اللازمة للطباخة، وفي الجوار داخل باحة المستشفى بقالة تديرها امرأة تركية مسنة وهي تبيع البهارات الشرقية إلى جانب المرطبات التي تقبل عليها الممرضات حيث يدخن لأن التدخين ممنوع في أي مكان في المستشفى، وقد امتد المنع بعد ذلك إلى جميع الأماكن العامة في برلين، ولا عزاء للمدخنين، ذلك أن النصائح لا تجدي معهم والله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن .

المهم ان رفيقي علي صالح محمد فعلها وأنجز طبخة منّاني بها الأماني وقد رفض تسريبها إلى الغرفة حيث زين لي تجريب المشي قليلاً والذهاب إلى سكنه الذي لا يبعد سوى ثلاثين متراً تقريباً، وقد كان، ولكن ظنوني خابت فقد أدركت منذ اللقمة الأولى أن معرفته بالطبخ لا تفوق معرفتي بالطب، ولولا ذلك لما كنت هنا أدفع ثمن الإهمال للنذر التي طالما خاطبتني بكل لغات الجسد، ادعيت مروري بنوبة آلام فظيعة وانني محتاج إلى أطبائي وممرضاتي، وكان الرجل الطيب يلح عليّ لتناول قدر من الأكل الذي أبدعه، ولكنني رفضت وتبت بعد ذلك توبة نصوحا متحملاً بكل ما منحني الله من صبر روائح الثوم الذي يقيه شر البرد ويجعله يعرق من كل المسام حتى تشبع الـأوفركوت السميك بالرائحة الزكية، وكان يستغرب حين تنفر الممرضات من حوله كالظباء فيسألني عن سوء السلوك هذا فأقول له: بعد العودة سأقول لك وها أنذا أقولها على الملأ، فمعذرة أيها الرفيق، وكان يزورني بين الحين والآخر الاستاذ صالح الحارثي من كادر السفارة اليمنية وهو رجل خفيف الظل خدوم متمكن من الالمانية فقد تزوج منهم وكنت لا أكف عن استعادة قصة مجيئة إلى هذه البلاد حيث كان في الاتحاد السوفيتي وحين غزت موسكو تشيكوسلوفاكيا فيما عرف بـربيع براغ تساءل الحارثي في اجتماع عام بالجامعة: لماذا حدث ذلك والتشيك أيهددون الروس وعينك ما تشوف النور مما جرى له بعد ذلك حتى قذف به إلى برلين.. إلى الغد.

 

 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s