أحلام وأوهام

لا بد من إيقاف القلب الطبيعي والرئتين لاستبدال شرايين القلب والاستعاضة عن ذلك بقلب صناعي ورئتين صناعيتين أو تنفس صناعي ولا بد من ثمن لذلك الإيقاف والاستبدال يختلف من شخص إلى آخر.. وهذا ما سيظهر لاحقاً ضمن ما نسميه الأعراض الجانبية ويزيد الأمر بالنسبة لأولئك الذين يعانون مشاكل مسبقة في الكلى أو الرئتين أو الكبد أو المرارة وغيرها، وقد شعرت مباشرة عقب العملية بظمأ شديد غير قابل للإرواء وإنما للتسكين وكنت كلما لمحت وأنا في ما يشبه الغيبوبة ممرضاً أو ممرضة صحت به “ووتر.. ووتر” حتى نهرني أحدهم وهو يقول لي قل “بليز” أي من فضلك فتعجبت لهذا الاتيكيت السخيف في ذلك الوقت الحرج وأنا أنزف إلى داخلي وقد لاحظت كأنني في حلم سيدة كبيرة ترمق ذلك الشاب بنظرة احتقار وتأنيب ومع ذلك فقد التزمت بكلمة “بليز” كأي تلميذ نجيب، فحاجتي إلى رشفات الماء تفوق أي رغبة في المناكفة ثم إن الأدب سيد العرب كما نقول، فاعتبرت أن الشاب أحسن إليّ من حيث أراد تأنيبي. لا بأس.. فقد سقطت عقب ذلك في هوة عظيمة لم أعد أميز فيها بين الواقع والحلم، فقد تهيأ لي أنني في “مسلخ” والذبائح مرمية في أرجائه، وقد انكمشت في سريري أراقب الضحايا، فلمحت مرافقة تجلس على حافة سرير مريضة وهي توجه نحوي كاميرا تلفونها، وتطلب مني أن أرفع رأسي وأنظر إلى الكاميرا لالتقاط صور تذكارية، ولم يكن كل ذلك صحيحاً كما اتضح لي فيما بعد، وإنما هو العقل الباطني يستبدل حياة بحياة، وبعد أن انتهت المرافقة المزعومة من التقاط الصور قامت بإلقاء خطبة عصماء تدين الإرهاب العربي، وتؤشر نحوي كنموذج، يقدم له الغربيون الحياة وهو يطلب لهم الموت، ولم أكن في وضع للدفاع، وقد شعرت بقدر من التعاطف من قبل نزلاء المسلخ، لا لأنني أستحق التعاطف كعربي وإنما لأنني في وضع العاجز الذي يستحق الرعاية، ولا بأس من إعطائه فرصة حتى يتمالك حواسه ويفهم ما يقال له أو يقال عنه، وقد نهضت تلك الفتاة وهي غاضبة أشد الغضب فذهبت إلى رجل في أقصى القاعة تبدو عليه مخايل الزعامة، فأفضت إليه بحديث لم أفهم من مفرداته شيئاً ثم قالت بالعربية الفصحى، وبصوت عال “وإليك الدليل” عارضة عليه ما سجلته على الشاشة وكان بلا شك صوري كما تهيأ لي ثم هددت باللجوء إلى الصحافة، فيما أخذت الممرضات يهدئنها حتى نجحن في اقتيادها إلى خارج الصالة وقد عشت في ذلك المشهد خوفاً وحزناً وألماً حتى برز صاحبي ورفيقي يصورني بكاميرته التي لا تفارقه، وقد أخبرني أنهم سينقلونني من الإنعاش إلى غرفتي، ولم أجرؤ على إخباره بما جرى، وفي الغرفة استمرت الايهامات الحسية فحين أفتح عيني أرى على الجدار صوراً لأناس مشوهين وحيوانات مخيفة وتشكيلات غريبة، والعجيب أنني كنت أفكر بمستويين فحين أغمض عيني أقول لنفسي إن هذه تهيؤات لا أساس لها ولكنني حين أفتحهما أعيش في ما أرى عيانا بيانا، وفي اليوم الثاني، وبعد مقدمات طويلة لإثبات أن قواي العقلية لا تشوبها شائبة رويت لصاحبي ما حصل قائلاً له إن ذلك أمر لا يدحض وإن بدا غير قابل للتصديق، وقد سأل بدوره مساعد طبيب القلب البروفيسور هسلر وهو الدكتور مهدي قادري من أبناء اليمن فأوضح أن هذا من الأمور الطبيعية المرافقة لعمليات القلب المفتوح، وستزول بعد أيام أو أسابيع، والآن حين أتذكر تلك المخاوف والمشاهد المروعة أتعجب وأبتسم.

 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s