كان ذلك منذ ستة أشهر تقريبا حين كتبت آخر عمود يومي في هذه الزاوية وكنت في الطريق إلى برلين لإجراء عملية قلب مفتوح رأى الأخصائيون في أبو ظبي أنه لم يعد منها مفر فهناك ثلاثة شرايين مسدودة أو توشك، ومن نعم الله على الإنسان أن لديه مخزونا احتياطيا للعديد من حالات الطوارئ ، ففي ساق كل منا وفي الصدر أيضا شرايين يمكن استخدامها للقلب دون خوف من رفضها لأنها من نسيج الجسد ولا يمكن لجهاز المناعة مهاجمتها أو النيل منها لأنه يتعرف على شفرتها شأن أي برنامج مجاز يتعرف الكمبيوتر على رموزه فيفتح أمامه الأبواب مثلما كان علي بابا يفتح الكنز بكلمة السر « افتح ياسمسم» ، كنت عاقدا العزم على مواصلة الكتابة يوما بيوم .. ولكن ، ما كل ما يتمنى المرء يدركه ، فقد ألفيت نفسي أترنح ، فإذا الكلمات التي كانت تنقاد كأنها الخيل المسومة أو الإبل الذلول ، تتأبى وتشمس كالخيول البرية المتوحشة تتشظى حروفها كالعهن المنفوش ، فإذا ما طاردتها ، كنت كمن يطارد السراب في الصحراء ، لا بأس إذا في استراحة المحارب والكف عن الطراد ، والإنشاد مع المتنبي :
يا ساقيي أخمر في كؤوسكما ؟!
أم في كؤوسكما هم وتسهيد ؟!
أصخرة أنا ما لي لا تحركني
هذي المدام ولا تلك الأغاريد ؟!
معاناة الكتابة اليومية وجع لذيذ ، إدمان لا يرجو مقارفه الشفاء منه ، فهو لا يردد مع نزار « إن كنت صديقي ساعدني كي أشفى منك» وإنما ينحاز إلى السياب الذي أضناه المرض فحز جسده ولكنه لم يحز روحه فهو يردد « لك الحمد أن الرزايا عطاء ، وأن المصيبات بعض الكرم» .. لقد أدرك الشاعر ببصيرة نافذة الوجه الآخر للمعاناة – كل معاناة – فما من مكافئ للألم سوى ثمار السرور الهانئة وراحة اليقين حين يتعرف الإنسان على النقيضين في البنية الواحدة ، فمن الألم ينبع السرور الحقيقي ، ومن السرور يتفصد الألم ، وكلاهما مادة الحياة وسرها الأزلي « والضد يظهر حسنه الضد» .
في مطار « فرانكفورت» تيقنت أن السفر قطعة من العذاب ، فالناس القادمون من السماء كأنهم طير أبابيل ، يتراكضون في كل اتجاه لحاقا بطائرة توشك على الإقلاع ، أو بحثا عن مخرج لتنفس الصعداء عقب اختناق الدرجة السياحية المشؤومة بالنسبة للمرضى لأنها أضيق من سم الخياط ، فإذا أضفت إلى ذلك الحرص الشديد على توفير المصاريف في ظل ارتفاع أسعار الوقود ، لابد لك أن تدرك أن زمن الراكب المدلل قد أصبح أثرا بعد عين ، فالراكب المعاصر متهم حتى تثبت براءته ، العيون المراقبة تنخله نخلا ، وعدسات الكاميرات ترصد سكناته وحركاته وتحاول أن تنفذ إلى نواياه الدفينة . أخذت أركض خلف رفيقي حتى تقطعت أنفاسي ، قلت له : خفف الوطء ولتذهب الطائرة إلى الجحيم ، علام نهلك أنفسنا ؟ قال لي : الموعد في برلين قلت له : إلى حيث ألقت ..، وقد بدا لي ذلك المطار خبتا بلقعا مزروعا بالحواجز ومحددات السير ، وكأن نزلاءه قادمون من جحيم «دانتي» فهذا يفتشون ملابسه وذاك يخلعون حذاءه ، وقد أهطع المسافرون رقابهم فلا صوت يعلو فوق صوت الحادي عشر من سبتمبر ، ويا عين لا تمسحي الدمعة .