وحش التضخّم يلوك بين أسنانه الفولاذية اقتصاديات الدول الفقيرة ويجعل شعوبها تترنح من الغلاء الفاتك وانهيار أسعار العملات الوطنية وبالتالي الهبوط الفعلي لمداخيل الناس وتدهور مستويات المعيشة الأمر الذي ينعكس على أمن تلك البلدان واستقرارها السياسي والاجتماعي ويجعل المستقبل سماء بلا نجوم في ليلة حالكة السواد، وتقف الحكومات عاجزة مشوشة متضاربة الأقوال والأفعال فيما الوحش يضرب ضرباته المميتة مهدداً بالمجاعات والأوبئة ونقص الثمرات والأنفس والثورات الحانقة الباحثة عن الأمل رغم انسداد الآفاق لأن مثل هذه الأزمات لا يمكن عبورها إلا بالبنيان المرصوص للشعوب التي تربط الأحزمة وتشيع حتى عدالة الظلم لأن وجود الترف الباذخ إلى جانب الفقر الكاسح هو كوجود النار إلى جانب البنزين، وما أدراك ما البنزين، فأسعار البترول المهرولة إلى السماوات العلا تُشعل نيران التضخم حول العالم، فالكل يسأل عن فاتورة الوقود وما تستنزفه من قواه، حتى أثرياء العالم الجدد مثل الصين والنمور الآسيوية والهند إن نموهم يتعرض لما يشبه المؤامرة ولكنهم لا يستطيعون ضبط خيوطها فالأسعار عالمية تحددها الأسواق وما ينتابها من مخاوف على الإمدادات ومخاوف من الحروب التي تهدد بغلق ممرات البترول التي تعد شرايين الحياة لجسد الاقتصاد العالمي، فيما الدول المنتجة تراقب انكماش الدولار الذي يضربه التضخم هو الآخر، وقد يأتي عليه يوم ينافس فيه الدينار العراقي والليرة اللبنانية والجنيه السوداني والقوما الإيراني.
إن ترابط الاقتصاد العالمي يجعل لمسة زر في أقصى الأرض تسري كالكهرباء إلى الطرف الآخر، وكما أن لا أحد قد رأى الكهرباء أو عرف ماهيتها أو طريقة سريانها فكذلك لن يرى أحد كيفية تصدير الأزمات الاقتصادية من بلد إلى آخر إلا رجماً بالغيب، وقد أفرطت أمريكا بوش في استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية ضد من لا يعجبها فتسببت للعالم بأزمات واختناقات وتهديدات محتملة لأن أي عقوبات لن تراوح مكانها إلى الأبد فهي إما أن تتصاعد أو تتلاشى وتعتمد الدول المحاصرة مقولة «الذي لا يكسر ظهرك يقويه» فتحشد مشاعر الناس وتجعل من الحصار الذي جلب التضخم شماعة لسوء الأداء الاقتصادي وعقم معالجة الخلافات الدولية والتطرف واستمرارية الحكم ولو على أسنة الرياح، وهكذا تضيع الطاسة بين «حانة ومانة».
وبما أن لكل مساعدة مقابلاً وثمناً فإن الدول القادرة لن تمد أيديها إلى الغرقى إلا بعد أن تأخذ منهم المواثيق والعهود بالسير على الصراط المستقيم وعدم مخالفة الأوامر واجتناب النواهي والموبقات، ومع ذلك فإنها لا تخرجهم إلى البر وإنما تعوّمهم في الماء فهم بين بين لا غرقى ولا ناجين وقد جاء في الأمثال: من كانت روحه في يد غيره مات معذباً، وما أكثر المعذبين في عالمنا.
لفتني أمس تقرير مخيف عن التضخم في دولة زيمبابوي الأفريقية شبه المنسية إلا من صيحات روبرت موجابي الذي يخرج من حفرة فيقع في بئر، وقد وصلت نسبة التضخم الشهر الماضي إلى 14850%، ولو استمر هذا المعدل حسب الاقتصاديين فإنه سيفرز معدلاً سنوياً يصل إلى 2.8 مليون في المئة، وأنت احسبها يا فهيم، وفي كل أسبوع تسقط قيمة العملة إلى النصف علماً بأن البلاد تمر في السنة العاشرة من انهيارها الاقتصادي الأسرع في التاريخ في بلد ليس في حالة حرب، فهل تعتبر حكومات أخرى ما زال الزمام في يدها ولو كان أوهى من خيط العنكبوت؟